21-07-2025
كيف تُبنى الدول على أساس العلاقة بين المواطن والوطن؟ هذا سؤال رئيسي في المشهد الراهن يحتاج إلى إجابة صريحة.
حين نفكر في بناء دولة قوية ومستقرة، غالبًا ما يُسلَّط الضوء على الاقتصاد، أو الأمن، أو البنية التحتية، لكن الحقيقة الأهم أن كل دولة ناجحة تبدأ من العلاقة بين الإنسان ووطنه: كيف يشعر المواطن تجاه بلده؟ وهل يثق فيمن يحكمه؟ وهل يشعر أنه جزء من الوطن، أم غريب عنه؟
الانتماء يُزرع منذ الصغر، والثقة تُبنى عبر الأفعال والسياسات، وحين يجتمعان، نضمن أساسًا متينًا لدولة قوية، تستحق شعبها، وشعب يستحق وطنه.
ومن هنا، تبدأ أول خطوة في بناء الدولة القوية.
عند البحث عن سرّ نجاح بعض الدول دون غيرها، غالبًا ما تنشغل التحليلات بالاقتصاد، أو الموارد الطبيعية، أو موقع الدولة الجغرافي.
لكن التجربة الإنسانية تثبت أن أساس الدولة الناجحة هو العلاقة السليمة بين المواطن ودولته.
هذه العلاقة تقوم على ركنين لا غنى عنهما: الانتماء والثقة.
الانتماء ليس قرارًا يُتخذ من أعلى، ولا تعليمات تُفرض بالقانون، بل هو شعور داخلي ينمو داخل الإنسان، ويتشكّل تدريجيًا من خلال البيئة، الأسرة، المدرسة، والتجارب اليومية.
الانتماء الحقيقي لا يُشترى ولا يُباع، ولا يمكن فرضه. يمكنك أن تختلف مع النظام، أن تنتقد السياسات، أن تُعارض، ومع ذلك يبقى قلبك مع وطنك، تشعر بالفرح لإنجازاته، وبالألم لانكساراته.
الانتماء يعني ولاءً للأرض والتاريخ والناس… لا للنظام السياسي المؤقت، وهنا تكون البداية: عندما يشعر المواطن أنه ليس مجرد فرد يعيش على الهامش، بل جزء من نسيج الوطن، وفاعل فيه.
وإذا كان الانتماء هو الأساس الأول، فإن الثقة هي البناء الذي يُقام على هذا الأساس. الثقة ليست شعورًا غامضًا، بل نتيجة مباشرة لممارسات واقعية:
عندما يشعر المواطن أن الدولة تُعامله بإنصاف، وأن صوته مسموع، تُولد الثقة.
لكن حين يرى العكس: قانون يُطبّق بانتقائية، حقوق مُهملة، مؤسسات تُخدم فئة دون أخرى، تبدأ الثقة في الانهيار، ويبدأ معها تآكل علاقة المواطن بوطنه، حتى لو ظل الانتماء العاطفي قائمًا.
المواطن المصري، بطبعه، يحمل انتماءً قويًا ومتجذرًا، فهو مرتبط بتاريخ طويل، وهوية عريقة، وأرض ذات طابع خاص، لكن هذا الانتماء العميق لم يُقابله دومًا مستوى مماثل من الثقة فيمن يحكم.
فالعلاقة بين المصريين والنظام السياسي كانت في كثير من الأحيان مضطربة، تتأرجح بين الأمل والإحباط، بين الحماس والخوف.
في بعض اللحظات شعر المواطن أن الدولة تقف في صفه، كما حدث مثلًا في: تأميم قناة السويس، وانتصار أكتوبر، وفترات اتسمت بانفتاح نسبي على الناس، لكن في لحظات أخرى، انهارت هذه الثقة تحت وطأة: القمع السياسي، وتفاقم الأزمات الاقتصادية، وتدهور الخدمات، شعور المواطن بأنه خارج معادلة القرار.
الدولة ليست مباني أو قوانين فقط، بل هي علاقة حيّة بين الناس ومؤسسات الحكم.
وحين يجتمع الانتماء الصادق مع الثقة المكتسبة: تتحول الدولة إلى وطن يحتضن أبناءه، ويشارك المواطن في صناعة مستقبله، وتزدهر التنمية، ويترسخ الاستقرار.
أما إذا فُقد أحد الركنين، تبدأ رحلة الانحدار، وتفقد الدولة تماسكها مهما امتلكت من موارد.
في تجارب الدول القوية، لم تكن الجغرافيا وحدها ولا الثروات هي أساس النجاح، بل كانت دائمًا العلاقة السليمة بين المواطن والدولة، القائمة على الانتماء الحقيقي، والثقة المتبادلة.
لكن يبقى السؤال الأهم الآن: هل يدرك النظام السياسي الحاكم أن الانتماء والثقة ليسا من الكماليات، بل من مقوّمات البقاء؟ هل هو مقتنع بأن استقرار الدولة يبدأ من احترام المواطن، والاعتراف بدوره كشريك لا تابع؟ وهل يضع هذا الاقتناع ضمن أولوياته الفعلية، لا مجرد شعارات إعلامية؟
إذا توافرت هذه القناعة داخل النظام، فسيكون أمامنا فرصة حقيقية لإعادة بناء الثقة، وتعزيز الانتماء، واستعادة الدولة لعافيتها السياسية والمجتمعية.
الطريق طويل، لكنه يبدأ من لحظة اقتناع حقيقي داخل أروقة الحكم، بأن لا دولة قوية بلا ثقة، ولا استقرار بلا انتماء.
إيهاب أبو سريع
أمين الهيئة العليا للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي
تم نشر المقال على موقع "فكر تاني" 16 يوليو 2025
كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي
تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.