مقالات

  27-02-2022

الجريمة والعقاب: حرب أوكرانيا، ماذا تعني سياسيا وكيف استعد بوتين للعقوبات الاقتصادية

المسيرات المناهضة للحرب في أكثر من 50 مدينة روسية رفعت شعار : هذه ليست حربنا، اعتراضا على الغزو الروسي لأوكرانيا الذي لم تكتمل فصوله بعد. لكن اجتياح القوات الروسية للأراضي الأوكرانية من الشمال والشرق والجنوب، الذي يذكرنا بغزو قوات صدام حسين للكويت في أغسطس 1990، يثير أسئلة كثيرة وخطيرة بالنسبة لمستقبل النظام العالمي، يتجاوز حدود روسيا وأوكرانيا.
الاجتياح الروسي يعني أن قوة نووية رئيسية، تحتل مقعدا دائما في مجلس الأمن، وتملك حق الفيتو على قرارات المجلس، تتصرف وكأنها فوق القانون الدولي، ويقرر رئيسها تغيير الحدود بالقوة، وتغيير النظام السياسي لبلد مجاور بالقوة، فهل تصبح القاعدة الجديدة في النظام الدولي هي :" القوة فوق القانون"؟ هذه هي شريعة الغاب المتوحشة، وهي تبرر أي رد من الطرف الآخر، إذا كان قادرا، أن يرد بكل الوسائل الممكنة دفاعا عن النفس.
اذا كان امتلاك القوة النووية يحمي المعتدي من العقاب، فإن الرد على ذلك هو أن امتلاك القوة النووية يصبح ضرورة من أجل امتلاك الحد الأقصى من الردع، الذي يمنع المجرم من ارتكاب الجريمة، طالما كان يعلم مسبقا أنه سيعرض لخطر الفناء.
السؤال الثاني المهم الذي يثيره الاجتياح الروسي لأوكرانيا يتعلق بحدود الردع الدولي ضد ارتكاب الجريمة، مقارنة بما حدث في غزو قوات صدام للكويت، في الكويت قبل أكثر من ثلاثين عاما فرضت الولايات المتحدة حصارا كاملا على العراق جوا و بحرا وبرا، كما فرضت عقوبات اقتصادية كاملة، وقادت تحالفا عسكريا عالميا، شاركت فيه دول حلف الناتو، ولم تعترض عليه أو تقف ضده روسيا أو الصين، وبعد فشل كل المحاولات لامهال صدام حسين للخروج من الكويت، قامت قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بعملية تحرير الكويت، وطاردت قواته المنسحبة إلى داخل جنوب العراق، ووفرت حماية جوية للمناطق الكردية في الشمال، بفرض منطقة لحظر الطيران. هذا الرد الدولي لم نشهده هذه المرة.
السؤال المباشر الذي يتبادر إلى الذهن هو: لماذا؟ لماذا تقتحم قوات فلاديمير بوتين أراضي أوكرانيا ويقتصر رد العالم على إعلان حزمة من العقوبات الاقتصادية، يستطيع بوتين في نهاية الأمر أن يتعايش معها؟ هل عجزت الولايات المتحدة عن إقامة تحالف عسكري عالمي يكون الناتو في موقع القلب منه؟ لقد فعلت أمريكا ذلك خمس مرات في السنوات الثلاثين الأخيرة، مرتين في العراق، ومرة في أفغانستان، ومرة في الحرب العالمية على الإرهاب، ثم أخيرا في الحرب على داعش. كل هذه الحروب لم تكن على أراض أوروبية، ولم تكن قريبة من أراضي حلف الناتو باستثناء تركيا.
فهل اذا تعرضت دولة أوروبية مجاورة للناتو العدوان، تقف قيادة الحلف مكتوفة الأيدي؟ وهل تصلح حجة عدم التدخل بسبب أن أوكرانيا ليست عضوا في حلف الناتو؟ الحجج التي ترددت في عواصم دول حلف الأطلنطي بشأن عدم التدخل لحماية دولة مستقلة تزعم أنها عضو في أسرة الدول الديمقراطية لا تقف على أرض صلبة.
الحجة الرئيسية هي أن المادة الخامسة من ميثاق الحلف تلزم الدول الأعضاء بالدفاع عن بعضها البعض فقط على أساس مبدأ أن "الاعتداء على واحد منها هو اعتداء عليها جميعا".
صحيح أن أوكرانيا ليست عضوا في حلف الأطلنطي، وصحيح أن هذه الدولة تعاني من حرب أهلية داخلية، وصلت إلى حد إعلان انفصال إقليم دونباس، لكن صحيح أيضا أنها ملاصقة للحلف، وانها تحصل على تسليحها من دوله، وأنها تطمح في الانضمام إليه، وهذا الطموح يعتبره بوتين " الجريمة" التي تستحق العقاب باجتياحها بالكامل، فهل تقف دول الناتو متفرجة، بل وتعلن على الملأ أنها لن تتدخل؟
لقد حضرت شخصيا في أوائل التسعينات من القرن الماضي، وفي نهاية تلك الحقبة مناقشات يجريها حلف الناتو حول حدود التدخل في النزاعات خارج حدود دول الحلف أو ما اصطلح على تسميته في ذلك الوقت out of area conflict وكانت الصراعات في الشرق الأوسط والبلقان هي أكثر المناطق سخونة في العالم مع انتهاء الحرب الباردة وسقوط حلف وارسو.
وخلال حقبة التسعينات طورت دول الحلف مفهوم التهديدات التي تتطلب التدخل يتجاوز حدود المفهوم المنصوص عليه في المادة الخامسة، ومن المعروف في الوقت الحاضر أن الحلف يقوم بعمليات خارج مناطق حدود الدول الأعضاء out of area operations منها المهمة التي ما يزال يقوم بها في العراق.
دعك من كل ذلك، واسأل نفسك: إذا كان الحلف قد اتخذ قرارا بعدم التورط في صراع على أوكرانيا، التي تربض بجواره تماما، فلماذا لم تبدأ دول الحلف خلال السنوات الثماني الماضية بتقديم مساعدات عسكرية تساعدها على حماية حدودها البرية ومياهها وأجوائها الإقليمية، وتركتها مكشوفة كصيد سهل، مما ساعد القوات الروسية على إغلاق البحر الأسود والأجواء الاقليمية واختراق حدودها البرية بسهولة؟
كما أنه من المعروف في العلاقات الدولية أنه يجوز التدخل في حال طلبت وحدة سياسية ذات سيادة ذلك، وقد طلبت أوكرانيا ذلك ضمنيا، كما طلبت صراحة فرض حظر جوي يمنع الطائرات الروسية من اختراق أجوائها والتحليق فيها. وعلى الرغم من المحادثات الهاتفية التي يجريها مسؤولون من دول الحلف مع الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، فإن أحدا لم يرد على هذه الطلبات.
قارن ذلك على سبيل المثال مع تدخل بوتين في سورية، لقد رد بالقول أن وجوده العسكري في سورية هو بطلب من الرئيس السوري، خطورة هذا العجز الذي يظهر به حلف الاطلنطي من شأنه أن يشجع بوتين بعد أن يلتهم أوكرانيا أن يستدير إلى مولدوفيا وأن يلتهمها في وجبة سريعة قبل أن يبدأ التخطيط لالتهام دول البلطيق. بوتين يؤمن بمبدأ أن القوة فوق القانون، ويجب أن يظهر له في العالم من يثبت أن القانون فوق القوة.
الجانب الآخر من الرد الغربي على اجتياح أوكرانيا، يتمثل في العقوبات الاقتصادية التي تم إعلانها حتى الآن.
لأول وهلة فإن هذه العقوبات لا تضاهي قوة التصريحات التي أدلى بها الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن أو رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في الأسابيع الأخيرة، الخطير في الأمر هو أن تأثير العقوبات الاقتصادية يكون مؤلما في الأجل الطويل طبقا لشدتها، ويُسأل في ذلك السودانيون والعراقيون والليبيون.
كما يعرف المسؤولون في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا أن العقوبات الاقتصادية التي فرضوها على بوتين عام 2014 بعد حرب القرم كان وما يزال تأثيرها ضعيفا، فلا هي زحزحت قواته من القرم، ولا هي ردعته عن غزو أوكرانيا.
فإذا كانت العقوبات الاقتصادية فشلت في المرة السابقة فلماذا تنجح في الوقت الحالي؟ يقولون لأنها أقوى وأشد، ليت هذا فارق في الدرجة، في الكم وليس في النوع. وطالما أن نوع العقوبات لم يتغير، وإنما جاء أوسع نطاقا أو أشد، فإن النتيجة المتوقعة هي أن بوتين يستطيع التعايش مع العقوبات، حتى وإن تحملت روسيا تكلفة أكبر، ومهما طال أجل العقوبات.
قدرة بوتين على التحمل:
يسود اعتقاد في الدوائر السياسية الغربية خصوصا في البيت الأبيض وداوننج ستريت أن تأثير العقوبات سيتجاوز حدودها الاقتصادية إلى تداعيات سياسية يمكن أن تسقط سلطة فلاديمير بوتين في الكرملين وتأتي بغيره. جوزيف بايدن في واشنطن يعتقد أن العقوبات ستؤدي إلى تحول كبير في الرأي العام الروسي ضد بوتين، بما يمهد لصعود المعارضة واسقاطه، أو اضعافه على الأقل، بينما بوريس جونسون في لندن يعتقد أن العقوبات على الأوليجاركيين الروس، التي تشمل تجميد أموالهم ستؤدي إلى تحولهم ضد بوتين، والانقلاب عليه. قد يرى البعض أن تلك هي مجرد أضغاث أحلام. ومع أن السياسة لا تعرف المستحيل، إلا أننا سنفترض بقاء الوضع على ما هو عليه، لنرى هل يستطيع بوتين أن يتعايش مع عقوبات 2022 كما تعايش مع عقوبات 2014؟
إن تجربة بوتين مع عقوبات احتلال وضم شبه جزيرة القرم هي بمثابة معمل التجارب الذي تعلم بوتين منه الكثير من الدروس، تعلم أن الاعتماد المفرط على الدولار في تسوية المدفوعات الدولية لروسيا يمثل خطرا، عليه أن يتحول منه. كما تعلم أن الإفراط في المعاملات التجارية مع الغرب هو خطر في حال العقوبات يجب العمل على تقليل أضراره.
تعلم أن الثقة في دول حلف الناتو هي بطبيعتها محدودة، طبقا لتجربته، فقد رفضت دول الحلف طلب انضمام روسيا لتصبح عضوا فيه، بينما سعت تلك الدول إلى زيادة التوسع شرقا، فيما يعتبره هو على حساب الأمن القومي لروسيا. وبناء على ذلك فقد أنفق السنوات الثماني الماضية في إعداد نفسه لغزو أوكرانيا اذا احتاج الأمر.
وربما كان بوتين يعرف مسبقا أن دول حلف الناتو سترد على اجتياحه أوكرانيا بعقوبات اقتصادية أشد من تلك التي تعرض لها بعد حرب البلقان. وقد تضمنت الاستعدادات التي قام بها لزيادة قدرة روسيا على تحمل تأثير العقوبات الاقتصادية زيادة رصيد الاحتياطي من النقد الأجنبي حتى وصل إلى 630 مليار دولار، أي ما يعادل 42 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا. أثناء حرب القرم كان رصيد روسيا من الذهب 1112.5 طن وخلال السنوات التالية حتى نهاية العام الماضي قفز الرصيد إلى 2298.5 طن، لتحتل المركز الخامس عالميا والرابع أوروبيا. كذلك تملك روسيا مخزونا مؤكدا من الذهب الخام يبلغ حوالي 7500 طن ، وتأتي في المركز الثاني عالميا. استطاع بوتين اذن مضاعفة احتياطي الذهب والعملات الأجنبية خلال السنوات الثماني الأخيرة وذلك على الرغم من تقلبات أسعار النفط والمواد الأولية. وساعد على ذلك تطبيق سياسة مالية تقشفية ، تقيم توازن الميزانية على أساس متوسط سعر تصدير النفط بواقع 45 دولارا للبرميل، وما زاد عن ذلك يكون فائضا يتم ترحيله للاحتياطي والصندوق السياسي.
هذا يعني من الناحية المالية أن بوتين ينام على وسادة مريحة جدا، وأن التقلبات في سعر الروبل مقابل العملات الأجنبية لا تعنيه كثيرا، بل إن انخفاض سعر الروبل يعني ارتفاع حصيلة صادرات روسيا عندما يتم تقويمها بالعملة المحلية. وهذا في مصلحة روسيا باعتبارها دولة مصدرة للطاقة والمواد الأولية الزراعية مثل القمح والمعادن مثل النحاس والألومنيوم والنيكل وغيرها. وقد تحوط بوتين لانخفاض سعر الروبل بزيادة الغطاء من النقد الأجنبي والذهب، وكذلك بالتوسع في اتفاقيات تسوية المعاملات التجارية بالعملات المحلية مع شركاء روسيا التجاريين، وكذلك اتفاقيات مبادلة العملات currency swap agreements بين البنك المركزي الروسي وعدد كبير من البنوك المركزية في الدول الصديقة لروسيا مثل الصين وايران والهند وغيرها. ويتردد أيضا أن روسيا أقامت في بروكسل مركزا لتسوية المبادلات التجارية باليورو واليوان والروبل، بعيدا تماما عن نظام "سويفت" الذي تدخره الولايات المتحدة ليكون بمثابة القنبلة الكبرى في قائمة العقوبات الاقتصادية. وقد تحول بوتين لاحتمال فرض حظر على البنوك الروسية في شبكة سويفت العالمية فسعى مع الصين إلى إقامة نظام بديل. هذا لا يعني أن الاقتصاد الروسي لن يتعرض لأي مخاطر أو أضرار. وقد شهدنا فعلا خلال الأيام الأخيرة تراجعا حادا في أسعار أسهم الشركات الرئيسية، وهبوطا حادا لقيمة سندات الخزانة، وهو الهبوط الذي يترجم في ارتفاع صارخ في العائد، أي زيادة تكلفة الاقتراض الحكومي من الخارج، في حال أرادت الحكومة اصدار سندات وهو افتراض نظري بحت، لأن العقوبات تضمنت حظر اصدار او تداول سندات الحكومة الروسية.
ونلاحظ كذلك أن السياسة التجارية الروسية اتجهت إلى تكثيف العلاقات مع الصين ودول اسيا الوسطى وتركيا وايران والهند والدول العربية والأمريكي ودول أمريكا اللاتينية البعيدة عن الفلك الأمريكي. وشهدت السنوات الثماني الأخيرة مد خطوط أنابيب النفط والغاز إلى الصين، وزيادة الصادرات بكميات كبيرة. وفي الأيام الأخيرة وقعت روسيا مع الصين اتفاقية تسمح للصين باستيراد كميات غير محدودة من القمح الروسي، بعد أن قررت الصين إلغاء التزامها بالعقوبات الأمريكية المفروضة. لكن روسيا ما تزال تعتمد على الغرب في استيراد السلع التكنولوجية المتقدمة. ومن ثم فإن القطاع الصناعي المدني والعسكري من المرجح أن يتأثر سلبا بالعقوبات في مجال التجارة.
ومن الملاحظ في مسألة العقوبات أن الولايات المتحدة فشلت في إقامة تحالف عالمي لفرض عقوبات اقتصادية مشتركة على روسيا. لكن قائمة من الدول تشمل الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وكندا وأستراليا واليابان، تبدو متفقة معا على استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، مع اختلاف العقوبات من بلد إلى آخر. على سبيل المثال فرضت الولايات المتحدة عقوبات على أكبر بنك روسي هو سبيربانك في حين لم تشمله بريطانيا بالعقوبات. وفرضت بريطانيا حظرا على رحلات طيران ايروفلوت، في حين أن معظم الدول الأخرى لم تفعل إلا بعد أيام. هذا النهج الانتقائي في فرض العقوبات وعدم الاتفاق على قائمة واحدة يخلق ثغرات في منظومة العقوبات ككل ويجعلها أقل تأثيرا. غير أن السؤال الكبير في قائمة العقوبات حتى الآن يتعلق بقطاع النفط والغاز الروسي الذي أفلت تقريبا من العقوبات المباشرة باستثتاء الشركة صاحبة امتياز تشغيل خط نوردستريم2 للغاز وقرار ألمانيا بتعليق الموافقة على ترخيص التشغيل. افلات قطاع الطاقة الروسي من قائمة العقوبات يطرح هو الآخر عددا كبيرا من الأسئلة لفهم المسار المحتمل للصراع على أوكرانيا. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن روسيا تستفيد بارتفاع أسعار النفط والغاز، ولا تتعرض للضرر من انخفاض كمية الصادرات بسبب اي عقوبات محتملة نظرا لأن الاثر الايجابي لارتفاع الأسعار يمكن أن يقلل الأثر السلبي لانخفاض الصادرات، وهو ما قد يشجع روسيا على توجيه ضربة قاتلة لأوروبا اذا هي قررت وقف امدادات النفط الغاز المتجهة غربا. هذا من شأنه أن يضع روسيا في الكفة الأرجح في حال فرض عقوبات على قطاع النفط والغاز.
لكن عدم اقدام الولايات المتحدة وأوروبا على فرض عقوبات على هذا القطاع يطرح في حد ذاته مجموعة أخرى من الأسئلة ترتبط بخريطة توزيع الطاقة في العالم، وفشل أوروبا على وجه التحديد في تخفيف اعتمادها على النفط والغاز من روسيا، وهي تعلم أن روسيا يمكن أن تستخدم الطاقة سلاحا سياسيا، لأنه معلوم للكافة منذ سبعينات القرن الماضي منذ الحرب العربية- الإسرائيلية عام 1973 أن النفط يستخدم كسلاح سياسي، وأن ذلك يصدق على كل السلع الإستراتيجية.
وللحديث بقية في مقال قادم

د/ ابراهيم نوار
باحث متخصص في العلاقات الاقتصادية والنزاعات الدولية


كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي

تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.