مقالات

  15-07-2025

كل الطرق تؤدي إلى الأسئلة الصعبة

في حادث مأساوي وقع مؤخرًا على الطريق الإقليمي بمحافظة المنوفية، لقي نحو عشرين فتاة مصرية مصرعهن إثر تصادم سيارة ميكروباص تُقلهن بسيارة نقل ثقيل. مأساة لم تكن الأولى، وربما للأسف لن تكون الأخيرة، في ظل واقع معقّد. طفرة هائلة في مشروعات الطرق، تقابلها ثغرات خطيرة في السلامة والتخطيط والرقابة. هنا تبرز المعضلة، هل تكفي شبكات الطرق الحديثة لإنقاذ الأرواح؟ أم أن ما ينقصنا هو التفكير الهندسي الشامل، والرقابة الفعلية، والإرادة لتصحيح ما لم يكتمل؟

أولًا: إنجازات لا يمكن إنكارها

شهدت مصر منذ عام 2014 طفرة ضخمة في مشروعات البنية التحتية، وعلى رأسها الطرق والكباري. وقد بلغ طول الطرق الجديدة ضمن المشروع القومي أكثر من 7 آلاف كيلومتر، وتطور ترتيب مصر في مؤشر جودة الطرق العالمية من المركز 118 إلى المركز 28 خلال خمس سنوات فقط، وهو إنجاز غير مسبوق. وتهدف هذه المشروعات إلى ربط المحافظات والمناطق النائية، ودعم التنمية الصناعية والزراعية، وتسهيل حركة البضائع وتقليل زمن الرحلات، وخلق محاور بديلة للحد من الزحام في المناطق الحضرية. ولكن، وفي خضم هذا الإنجاز، ظهرت تساؤلات ملحّة:

• هل تم الالتزام الكامل بالمعايير الدولية لهندسة الطرق والكباري؟

• هل أعطيت السلامة والصيانة والرقابة نفس الأهمية التي أعطيت للتنفيذ السريع والتوسع الأفقي؟

ثانيًا: المعايير الهندسية للطرق، أين نحن منها؟

في تصميم الطرق الحديثة، توجد معايير هندسية دولية صارمة، تصدرها جهات مثل:

• جمعية مهندسي النقل العالمية (ITE)

• منظمة الطرق العالمية (PIARC)

• المواصفات الأمريكية AASHTO

• الاتحاد الأوروبي للطرق UNECE

وتشمل هذه المعايير عناصر أساسية، سأذكر بعضها هنا لإثارة المقارنات بين المعايير الهندسية الدولية والواقع المحلي كما يلي:

1. تحليل الحركة المرورية (Traffic Studies)

فقبل إنشاء أي طريق جديد، يجب إجراء دراسات حركة لتحديد:

• متوسط عدد المركبات يوميًا (ADT).

• نسبة المركبات الثقيلة.

• أوقات الذروة.

• الحاجة لمداخل ومخارج جانبية أو فرعية.

أما في مصر، فكثير من الطرق أنشئت بسرعة دون أن تكون مدمجة فعليًا في الشبكة المجتمعية، ما أدى إلى فجوة بين التصميم والواقع. أو إجراء تعديلات بعد فترة وجيزة من تسليم المشروع.

2. تخطيط السرعة والمسارات (Design Speed & Geometry)

التصميم الهندسي للطريق يجب أن يحدد:

• السرعة القصوى المناسبة لكل منطقة.

• ميل المنحنيات والانحدارات. (Super Elevation)

• عرض الحارات وفواصل الأمان.

لكن في كثير من طرقنا، نجد أن السرعة المصممة لا تناسب الواقع العمراني المحيط أو طبيعة الاستخدام الفعلي، ما يتسبب في حوادث قاتلة. واحيانا تحدد سرعات أقل من المنطقي دون أي مبرر.

3. إدارة الوصول (Access Management)

أي طريق سريع لا بد أن يُصمم بمنع التقاطعات العشوائية والمداخل غير المنظمة، وأن يشتمل على نقاط تحكم بالاندماج والانفصال "حارات التهدئة والتسارع". أما في الواقع فنجد طرقًا حديثة يتم دخولها مباشرة من قرية أو مخزن على الطريق، دون مطبات أو إشارات، كما تهمل كثيرًا في التنفيذ ممرات التهدئة، ما يضاعف الخطر.

4. أنظمة الإنارة والإرشاد (Lighting & Signage)

تتضمن المعايير:

• إضاءة كافية وعواكس عند المنحنيات والمداخل.

• لافتات واضحة ومرئية نهارًا وليلًا وفي أماكن مناسبة.

• علامات أرضية مانعة للانزلاق.

في طرقنا غياب الإضاءة في بعض الطرق أو تآكل العلامات الأرضية أو عشوائية تنفيذها يجعل القيادة ليلًا مقامرة حقيقية.

5. مناطق عبور المشاة وخدمات الطوارئ

تفرض المعايير الدولية وجود:

• أماكن لعبور المشاة.

• نقاط استراحة طوارئ.

• وحدات إسعاف قريبة.

• هواتف طوارئ وخطوط تواصل.

في طرقنا، قد يقطع طفل أو فلاح الطريق السريع سيرًا على الأقدام لأنه لا كوبري مشاة ولا معبر رسمي، وفي الحوادث قد يظل المصاب في حادث ينتظر لساعات دون دعم فوري.

6. الصيانة الدورية (Routine & Preventive Maintenance)

هذه من أهم المعايير، وتشمل:

• رقابة يومية للأرضية، واللافتات، والحواجز، والإضاءة، والعواكس.

• إعادة طلاء الخطوط كلما كانت الحاجة.

• متابعة تصريف الأمطار وتطهير مجاري السيول.

• إزالة فورية لأي عائق على الطريق (مثل حطام أو مخلفات بناء).

الواقع يقول إن كثيرًا من الطرق المصرية لا تُصان فعليًا، وتُترك للتلف، وتنتظر الكارثة لتُعاد بالكامل مرة أخرى.

ثالثًا: مظاهر الخلل والفوضى

• السرعة في التنفيذ على حساب الجودة:

في مشروعات كثيرة، أصبحت "سرعة الافتتاح" أهم من ضمان الاستدامة. فبعض الطرق يتم تسليمها وتشغيلها دون اختبارات متكاملة أو خدمات أو رقابة.

• ضعف التواجد المروري:

عدد الدوريات المرورية على المحاور الرئيسية لا يتناسب مع حجم الحركة. فلا كاميرات كافية، ولا رادارات فعّالة، ولا استجابة حقيقية لشكاوى المخالفات. ورغم أهمية وجود الشرطة في تنظيم حركة المرور، فإنّ ما يحدث أحيانًا على الأرض يعطي انطباعًا عكسيًا؛ إذ يتحول تواجدهم في بعض المناطق إلى عنصر تعطيل لا تنظيم، خاصة حين تُنصَب الكمائن وتُحرّر المخالفات بطريقة تفتقر للشفافية أو الأولوية للردع. هنا يشعر السائقين أن الهدف لم يعد منع الخطأ، بل تحصيل الغرامة، ما يخلق فجوة في الثقة بين المواطن وجهات تنفيذ القانون.

• السير عكس الاتجاه:

ظاهرة مروعة في شوارع وطرق رئيسية مثل "الأوتوستراد" وغيرها. سيارات ودراجات وتكاتك وعربات كارو تسير عكس الاتجاه في غياب تام للردع أو التنظيم.

• فوضى الميكروباصات:

الميكروباصات تحتل ثلاثة وأربعة صفوف عند مداخل المحاور، خصوصًا في المنيب، الدائري، كارفور، كوبري التونسي إلخ. ما يجعل التوسعة بلا قيمة، ويعطل حركة المرور.

• المخلفات والردم العشوائي:

لا جهة رقابية فعّالة ترصد أو تزيل المخلفات الملقاة على جانبي الطرق السريعة، خاصة في المداخل الزراعية أو المناطق الصناعية.

رابعًا: شبكة الطرق ليست مشروعات مستقلة بل منظومة واحدة للسلامة والتنمية

إنشاء الطرق ليس هدفًا بحد ذاته، بل وسيلة لخلق بيئة آمنة، ,اقتصادية، ومتصلة. لكن ذلك لن يتحقق إلا إذا:

• أُعيد تقييم ما نُفّذ بالفعل من طرق ومحاور من حيث الكفاءة والملاءمة.

• تم إدراج الصيانة الوقائية كجزء من الميزانية السنوية وليس بندًا هامشيًا.

• وُضعت مسؤوليات واضحة للمحاسبة عند الفشل أو التأخير أو الخطأ في التصميم أو التشغيل أو الصيانة.

• أُطلقت خطة وطنية للسلامة المرورية تشمل التدريب، التوعية، الردع، وتحديث تشريعات السير.

خاتمة: لا تفسدوا الطبخة على قرش ملح

نعم، الدولة أنفقت مليارات في مشروعات ضخمة غيّرت وجه البنية التحتية. لكن الخطر الآن أن "نُفسد الطبخة على قرش ملح" كما يقول المثل الشعبي. ما لم يُستكمل هذا الإنجاز الكبير برؤية شاملة للهندسة، والسلامة، والصيانة، والرقابة، والعدالة المرورية، سنظل نفتح طريقًا جديدًا بينما تُزهق الأرواح في آخر.

ما لم نعتبر كل طريق جديد التزامًا أخلاقيًا بحياة سالكيه، فستظل خرائطنا أكثر حداثة من واقعنا، وأرواح مواطنينا أقل أمانًا من سياراتهم.

م/باسم كامل

الأمين العام للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي

المنسق العام للتحالف الديمقراطي الاجتماعي في العالم العربي

نشر المقال على موقع "60 دقيقة نيوز" يوم 29 يونيو 2025

كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي

تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.