مقالات

  26-07-2023

قراءة في أوراق يوليو

هذه الرؤية للمهندس شوقي عقل وهي الأقرب للإطار الشامل لتقييم موضوعي كأساس نظري لأي عمل وطني لتجاوز حقبة يوليو بعد أن أصبحت عبئًا وقيدًا على الحاضر والمستقبل :

الحديث عن عبد الناصر يحتاج إلى قدر كبير من الموضوعية، وهذا ليس سهلًا، لأسباب تتعلق بكونه الرجل المؤسس لعالم كامل نحياه منذ وصوله، فالتاريخ (الناصري) مازال يُكتب!! فعالمه أو بصورة أدق - إمتداداته- قائمة حية.

سبب آخر هو أن "عبدالناصر " كنظام وأفعال وشخص، أثر بصورة تكاد تكون شخصية في حياة أجيال بأكملها.

وهذه ليست مبالغة فبعضنا تأثر به سلباً، بالقمع والقهر المباشر وغير المباشر، والبعض الآخر تأثر به إيجابًا كونه إستفاد من توزيع الأرض أو قانون الايجارات أو مجانية التعليم وفتح الجامعات والدراسات العليا وفرص التوظيف للفقراء.

البعض الآخر شهد في عبدالناصر تحقيقًا لحلم الوطن بالإستقلال والتنمية والاشتراكية. لهذا فـ(الموضوعية) صعبة، خاصة لجيلنا والأجيال القريبة منه، ولكنها ضرورة.

لعل تلك العلاقة التي تكاد تكون شخصية، هي السبب في حدة الحوار وعدم موضوعيته كلما ذكر أسمه، التي تتمثل في المواقف الأحادية الوجه، مع أو ضد، شر كله أو خير كله!

وربما وببساطة مازلنا نعيش عصره بالمعنى المؤسسي!!!

الحالة العاطفية في الحديث عن عبد الناصر تستوجب المواقف العنيفة، إن رفضا بالكامل أو إشادة فارغة سوى من جمل (شعاراتية) إنتهى عهدها.

سأقدم عبدالناصر في نقاط وكلي أمل أن لا أكون أنا الآخر قد وقعت في شرك العصبية العاطفية!

سأقدم أولًا الإيجابيات ثم أتبعها بطبيعة نظامه ومساره وما آلت إليه الأمور.

١- زعيم وطني خاض معارك حقيقية مع الإستعمار والصهيونية.

٢- عادى طبقة كبار ملاك الأراضي وقضى على قوتهم الاقتصادية والسياسية بقانون الإصلاح الزراعي وتعديلاته.

٣- شارك مع زعماء من دول العالم الثالث (نهرو- تيتو- سوكارنو) في صنع حركة الحياد وعدم الإنحياز.

٤- عادى النخب الرأسمالية الصناعية والتجارية والمالية والعقارية المسيطرة، وقصقص أظافرهم بتأميمات الستينيات، وإن لم يقضي عليهم..

٥-قدم لأبناء الفقراء فرص للعمل والتعليم العالي والعلاج والتقدم بصورة عامة.

٦- عادى الرجعية العربية وقضى على قدرتها وحجم وجودها وحارب أحلافها (حلف بغداد، الحلف الإسلامي)

٧- قدم العون المادي والبشري لحركات التحرير الأفريقية واستضاف قادتها (غانا- الكونغو- تنزانيا..) نكروما ونيريري ولومومبا وغيرهم.

٨- حاول إرساء قاعدة صناعية كبرى بإنشاء مصانع الحديد والصلب ومجمع الألمنيوم والنقل الخفيف والكوك والمراجل والغلايات والكيماويات وغيرهم.

٩- أنشأ مشروعات ذات طبيعة اجتماعية وسياسية واقتصادية ضخمة كمشروع السد العالي.

١٠- شهد عصره نهضة ثقافية كبيرة، تمثلت في إنفاق الدولة على وسائل الإبداع الفني والأدبي من مسارح ومكتبات ودور نشر ومجلات أدبية وفنية ودور عرض سينمائي وقاعات موسيقى ومعارض واستديوهات.

١١- وضع مشاريع ذات صبغة خدمية تعليمية وصحية مثل مشروع ( مدرستين كل ثلاثة أيام).

١٢- قدم العون المادي والبشري لحركات التحرير العربية (الجزائر- فلسطين- اليمن الشمالي والجنوبي).

هذا عما يمكن تسميته توجهاته الوطنية والاجتماعية والتنموية.

بينما كانت معالم نظامه السياسي والاجتماعي التي تسببت في دمار الأمة تتمثل في:

١- طبيعة التوجه الطبقي، الذي لم يخرج عنه في كل مقولاته وأفعاله، وهو الانتماء إلى الفكر البرجوازي الصغير الرومانسي والساذج (كتعبير طبقي) عن رؤاه الاجتماعية.

وهو الفكر الذي تخيل علاقة تحالف تجمع بين صاحب العمل والعامل وما بين صاحب الأرض والفلاح الأجير، داخل تنظيم سياسي واحد.

كان من المنطقي أن يسيطر المالك صاحب المال والقوة على السلطة ويديرها ويغيرها لصالحه في لحظة معلومة، ضد الفقير وضد توجهات عبدالناصر نفسه، وهو ما حدث.

٢- وسع من قاعدة الكيان الحكومي الإداري وأنشأ العديد من الأجهزة والإدارات المختلفة بدون ضرورة، وضع النظم المؤكدة لسيطرة الجهاز البيروقراطي وانتشاره الهائل، فخلق أشد النظم البيروقراطية وأكبرها حجما التي عرفتها مصر عبر تاريخها الحديث.

٣ - قام بتحييد قطاع واسع من البرجوازية الصغيرة نتيجة عملها وإسترزاقها من الحكومة، عبر حالة التوظيف الواسعة النطاق، وحول قطاع واسع من العمال إلى حالة الاسترزاق اللامنتج عبر شبكة من القوانين والنظم البيروقراطية التي حكمت، وحدات إنتاجية كبيرة في الغزل والنسيج والصناعات المعدنية والغذائية والإدرات الحكومية الخدمية.

وجدت مصر نفسها أمام تشكيل بشري بطيء الايقاع عديم الكفاءة ثقيل وكبير العدد في معظم مواقع الإنتاج والخدمات والإدارة، شهدنا "ست الحاجة" المديرة والموظفين الذين لا يفعلون شيئا سوى تمضية الوقت والذهاب لمجالس العزاء أثناء العمل والحديث وتجهيز الخضار، طبعا بمرتبات لا تكاد تكفي مصاريفهم اليومية .

النتاج السياسي لحالة (التوظيف) هو الانتماء الواسع لسلطة الدولة البيروقراطية، موظف الحكومة الفقير البائس أصبح ممثلًا للدولة!

٤- في حله لقضية ملكية الأرض الزراعية، عبر عن تفكيره البرجوازي الصغير، حين قسم الأرض بين الفلاحين كترضية، فتسبب في تفتيت ملكية الأرض، مما أدى لتخفيض إنتاجيتها وتعقيدها مع انتقال الملكية إلى الورثة، وذلك بدلًا من إعتماد الملكية التعاونية مثلًا للوحدات الكبيرة، وهو ما تسبب في الدمار الكبير الذي تشهده القرية المصرية، الذي تمثل في وجود ملايين الحيازات الزراعية الصغيرة جدًا، نتيجة للتوريث المتتالي، والتي تصل لبضع قراريط، ولا تقيم أود أسرة متوسطة أو صغيرة، مما نتج عنه الإضطرار إلى الهجرة أو النزوح إلى المدن الكبرى أو للخليج للعمل، ودمار إنتاجية الأرض.

٥- وسع من سلطات الأجهزة الأمنية القائمة وأنشأ العديد من الأجهزة الجديدة، وخلق حالة تعدد مستويات الرقابة على تلك الأجهزة نفسها، ومد رقابتها إلى كافة مجالات العمل والدولة.

٦- أجهزته السياسية (النضالية) كالتنظيم الطليعي، كان يقوده وزير الداخلية، في تعبير لافت عن الطبيعة الأمنية- البيروقراطية لنظامه.

٧- في العديد من المناسبات عبر عن رؤيته المتعالية للشعب وعجزه عن تقديم حلول جذرية للتنمية والاستقلال ((عاوزني أعمل أيه، أحط جهاز مخابرات على المخابرات؟ - أعمل لكم إيه، أنتم بتكتروا)) رغم الخطابية الزاعقة التي تتحدث عن الشعب بإعتباره (المُعلم)!

٨- قضى على التقسيم التقليدي للسلطات الثلاثة، أصبحت السلطة التشريعية جزء ضعيف الأثر والشأن من السلطة التنفيذية، واختفت الحياة النيابية من الحياة السياسية تمامًا مقارنة بمصر ما قبل الثورة والدور الكبير لمجلس نواب الشعب (البرلمان) في إدارة الحياة السياسية، كانت تلك نكسة كبرى للحياة السياسية في مصر.

٩- قضى على حرية الصحافة والإعلام وقضى على كافة الحريات الديمقراطية (التظاهر- الإضراب- الاعتصام- تشكيل الأحزاب- الجمعيات- طباعة المنشورات..الخ)

١٠- واجه معارضيه وحتى حلفاءه المفترضين، بقسوة وعنف شديدين وصلا إلى حد القتل في السجون (حمزة البسيوني القاتل والسجن الحربي، شهدي عطية ومحمد عثمان وغيرهم، قتل جماعي للإخوان في حوادث في السجون) وأعدم بعضهم دون مبرر (سيد قطب وعودة).

١١- رغم أن مصر الأربعينيات شهدت حركة وطنية واجتماعية عارمة، نادت بالاستقلال وتأميم القناة وإعلان الجمهورية وارتفعت شعارات إشتراكية مثل (الأرض لمن يفلحها) وتحديد الملكية بخمس وعشرين فدان، إلا إن نظام عبد الناصر إعتبر أن تاريخ مصر الوطني والسياسي بدأ من يوليو ١٩٥٢، وإن ما قبل ذلك كان كله شر.

قطع الصلة مع تاريخ مصر الوطني العظيم!

١٢- عادى بقوة القوى الوطنية الأخرى التي لا تنتمي إلى رؤيته، حتى وإن كانت لها نفس التوجه المعادي للإستعمار ونفس التوجه الاجتماعي (اليسار المصري مثال)

١٣-حاول تطبيق أفكاره (الإشتراكية) بصورة بيروقراطية تضمنت إستخدام نفس أدوات القهر الطبقي السابقة ونفس الأفراد المهيمنين طبقيًا.

١٤- سلم نظامه السياسي الميداني لأعداء (أفكاره) الطبقيين، فكان الانتقال بعد هزيمته إلى اليمين سهلا ميسرًا. (السادات -المشير وأركانه في النظام).

١٥- قدم نهجًا فرديًا شديد التحكم في إدارة التوترات الإجتماعية تحت مقولات ساذجة مثل (محو الفوارق بين الطبقات) طبعًا مع الإبقاء على التكوينات الطبقية وعدم المساس بعلاقات الإنتاج القائمة في صورتها البدائية.

١٦- قضى على إستقلال القضاء، بدءًا من الإعتداء على رئيس مجلس الدولة المستشار السنهوري في مكتبه، وإنتهاء بمذبحة القضاء سنة ١٩٦٨، وعبر سلسة من القوانين والإجراءات، حين أعاد تشكيل القضاء وأحال من يشك في ولائه إلى وظائف أخرى. ومن خلال تغيير قوانين تتعلق بالحقوق في التقاضي وسلب القضاء سلطات التحقيق وغيرها.

١٧- رفض التعاون مع الأحزاب العربية ذات التاريخ الطويل في مواجهة الإستعمار والتي تحمل نفس طموحه الوطني، وكانت علاقاته الطيبة دومًا مع التنظيمات أو الأفراد الناصرين وفقط، رغم ضعف تأثيرها في محيطها.

١٨- كمثال، ساند جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل، وهو تنظيم صنعه الإستعمار البريطاني الذي وضع عميلين من عملائه على رأس هذا التنظيم، هما عبدالله الأصنج وعبدالقوي مكاوي، وعادى الجبهة القومية التي قامت بحرب تحرير حقيقية، وعادى اليسار العربي عامة.

١٩ - فشل في خطتيه الخمسيتين الأولى والثانية بسبب الطبيعة البيروقراطية للقائمين على تنفيذها، وليس بسبب حرب ١٩٦٧ كما يشيع أنصاره.

٢٠- وضع على رأس السلطة التنفيذية (نائب الرئيس) شخصًا لم تكن تصرفاته المالية وعلاقاته الخارجية فوق الشبهات، هو أنور السادات.

٢١- أعطى القوات المسلحة وضعا متميزًا فوق الدولة وفوق المجتمع الشعبي.

٢٢- خاض حروبًا ذات طبيعة معادية للإستعمار والرجعية العربية والصهيونية، ولكن طبيعة نظامه تجلت في نتائج تلك الحروب، حيث تجلت الطبيعة النخبوية الضيقة لأركان نظامه (التي كانت فوق المسائلة) في الاستهتار الشديد في تكوين البنية القتالية للجيش، وانغماسهم في حياة بوهيمية (ابيقورية) مليئة بالفضائح المستترة وجلسات المخدرات، مما أدى إلى الهزيمة المخزية امام الصهاينة.

٢٣ - حلمه بالوحدة العربية وسعيه لتحقيقها غاب عنه ضرورة تحديد القوى صاحبة المصلحة في تلك الوحدة والأسس الاجتماعية التي تستند إليها والخلاف الذي لابد أن يحدث في حالة عمل وحدة ما بين نظم إجتماعية وسياسية متباينة ومختلفة في تطورها الإجتماعي والحضاري والإقتصادي. مما نتج عنه فشل تلك المشروعات وهزليتها.

٢٤- كديكتاتور شرس، ترك من بعده شعبا يتيما بدون قيادات شعبية ولا تنظيمات سياسية ولا رأي عام قوي. مما جعل شعب مصر مطية سهلة لكل مغامر أفاق، كما فعل السادات ومبارك من بعده، فهل كان السادات أو مبارك أو من ما .. ليستطيعوا حكم مصر نهاية الأربعينيات، أي قبل عبدالناصر، ويفعلا ما فعلاه... مثلا؟!

ــــــــــ ــــــ

منذ سنوات، قدم لي صديق ناصري مسودة كتاب حول العهد الناصري، مكونة من ستمائة وخمسين صفحة ليسمع رأيي فيها! تصفحت المسودة في وقت قصير، ربما ثلاثة ساعات، لا أكثر، لم يستوقفني شيء!! المدهش أنه لم يكن هناك في ذلك الكم الهائل من الكلمات سوى إعادة مملة وترديد للأقوال والكلمات المحفوظة!

كأن شيئا لم يكن! كأن لم يتم تدمير سوريا والعراق واليمن ومصر والجزائر ولبنان و..فلسطين!

المدهش أن هذا الصديق يستطيع أن يفعل أفضل من ذلك ..كثيرا!

آمل أن لا يفعل الاصدقاء الناصريون المثل، وأن يتناولوا فترة خصبة من تاريخ مصر بالجدية اللازمة، جدية تتجاوز حالة الوجد بشخص الزعيم، خاصة عند مقارنته بالحال الذي لا يسر ولا يشرف، إلى التقييم الموضوعي للتاريخ والشخص وحاجة ومصلحة الأمة.

في ذلك التقييم الجاد المتجرد، يكمن تحديد القيمة لشخص عبدالناصر بما هو عليه.

(منقول منقول منقول )

عبد العظيم حماد

رئيس التحرير الأسبق لصحيفة الأهرام

رئيس مجلس أمناء المصري الديمقراطي الاجتماعي

كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي

تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.