مقالات

  02-03-2022

ظن أنه عسل النحل فأدخل رأسه في عش الدبابير

دخل الدب الروسي برأسه إلى عش الدبابير وهو يظنه كنزا من عسل النحل، وأصبحت روسيا مهددة بعزلة دولية، بعد أن تدفقت الدماء دافئة في شرايين التحالف الغربي، الذي كان يشهد شروخا في العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في السنوات الأخيرة. وأطلقت الحرب في أوكرانيا قوة ألمانيا العسكرية للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، ودفعت الاتحاد الأوروبي إلى تمويل شراء أسلحة لأول مرة إلى دولة غير عضو فيه. ورطة الدب الروسي في أوكرانيا تعيد إلى الذاكرة ورطة الروس في أفغانستان؛ فالأنظمة الفاشلة تعيد إنتاج فشلها بحماقات أشد. هذه الورطة هي فرصة بايدن، ليس لإنقاذ رئاسته فقط، ولكن لتسجيل إسمه في سجل التاريخ بوصفه القائد الذي أعاد الحياة إلى النظام العالمي "الأحادي القطبية"؛ فإعادة الحياة إليه تعني إحياء القيادة الأمريكية المنفردة للعالم باعتبارها القوة المنتصرة في الحرب الباردة. ومن ثم فإن من مصلحة أمريكا تحويل الغزو الى ورطة للدب الروسي، واستثمار تلك الورطة لتأكيد هزيمته مرة ثانية، ومن ثم أضعاف الصين ومنع صعودها، بوصفها التهديد الحقيقي للقوة الأمريكية في القرن الحالي.
هنا تأتي أهمية حرب أوكرانيا؛ فهي مجرد الفرصة التي نشأت، لتهيئ للولايات المتحدة مسرحا عالميا مواتيا يعيد لها هيبتها. هذا المسرح يتكون الآن من الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وكندا وأستراليا واليابان، إضافة إلى قوى السلام في العالم، القوى المعادية للحرب، والقوى الديمقراطية المعادية للتسلط والاستبداد، وقد منحها غزو روسيا لأوكرانيا فرصة تاريخية للتعبير عن نفسها مجتمعة. الصورة على مسرح العمليات أمام الرأي العام تتصدرها مظاهرات غاضبة معادية للحرب في معظم عواصم العالم بما فيها موسكو، وتغذيها بزاد متجدد آلة إعلامية غربية جبارة، تعمل على مدار الساعة لتعبئة العالم ضد روسيا
سيناريوهات الحرب
تتعامل الولايات المتحدة مع حرب أوكرانيا بمنطق "طويل الأمد". ويكشف الخطاب السياسي الأمريكي - الأوروبي ضمنيا عن أن الحرب ستطول إلى سنوات، وليست مجرد نزهة تنتهي في أسابيع قليلة. وعلى هذا الأساس تم وضع ثلاثة برامج متناسقة لإدارتها: الأول هو تشديد العقوبات الاقتصادية على روسيا إلى الحد الأقصى لعزلها إلى أبعد حد ممكن، بما يؤدي إلى اضطراب الحياة اليومية للمواطنين والإدارة اليومية للحكم.
البرنامج الثاني، هو لتعزيز القوة العسكرية للحكومة الأوكرانية عن طريق تقديم أسلحة ومعدات عسكرية تقرب قيمتها من مليار دولار وتزيد. أما البرنامج الثالث فيتضمن تقديم مساعدات اقتصادية وإنسانية إلى أوكرانيا والدول المستقبلة للمهاجرين الفارين من نيران الحرب، خصوصا إلى الدول المجاورة مثل بولندا ومولدوفا ورومانيا وسلوفاكيا والمجر. الهدف من هذه البرامج الثلاثة هو زيادة قدرة أوكرانيا على تحمل الاحتلال الروسي ومقاومته، وخلق محركات داخلية للضغط والتغيير في داخل روسيا.
اليوم التالي
أن غزو أوكرانيا يمثل من وجهة النظر الاستراتيجية ضربة مباشرة للنظام العالمي الأحادي القطبية الذي تقوده الولايات المتحدة. وسوف تقرر هذه الحرب مكانة الولايات المتحدة ومكانة روسيا في العالم، تماما كما فعلت الحرب العالمية الثانية بالنسبة للبلدين. لكن مصير الحرب نفسها لا يتحدد بناء على نجاح القوات الروسية في اجتياح الحدود الأوكرانية، وإنما يتحدد بما يحدث في اليوم التالي. لقد دخل الروس أفغانستان بسهولة، لكن اليوم التالي للحرب استمر عشر سنوات تقريبا، وانتهى بهزيمة الاتحاد السوفييتي. كذلك دخل الأمريكان فيتنام بسهولة، لكن اليوم التالي للحرب استمر عشرين عاما، وكان هزيمة تاريخية لهم. وها نحن نشهد مأساة الحرب في اليمن، التي دخلتها السعودية وهي تعتقد أنها لن تتجاوز بضعة أسابيع، وما زال اليوم التالي للحرب مستمرا ليدخل عامه الثامن هذا الشهر. اليوم التالي للحرب الأوكرانية قد يمتد إلى سنوات؛ فهي حرب تتعلق بمصير النظام العالمي الأحادي القطبية. وتعلم الولايات المتحدة أن سقوطه يعني أيضا سقوط مكانتها، ولذلك فإن من مصلحتها تحويل أوكرانيا إلى أفغانستان جديدة للروس، وربما يصل الأمر إلى المساعدة على تشكيل منظمات مسلحة غير حكومية شبيهة بمجموعة "فاجنر"، تتولى إرسال متطوعين للقتال ضد الروس هناك، الى جانب القوات الحكومية، وزيادة تدفق تلك النوعيات من الأسلحة التي تستخدم في "حروب المدن" غير النظامية. لكن ذلك يحمل في طياته مخاطر تحول منطقة شرق ووسط أوروبا إلى "شرق أوسط جديد" فتنزلق إلى حروب لا نهاية لها، وتصبح مفرخة لجماعات أو منظمات مسلحة رمادية، ويمكن أن تنتشر منها الفوضى شرقا وغربا.
خيارات بوتين
روسيا قوة عالمية رئيسية، ولا يمكن تخفيض مكانتها إلى قوة ثانوية، فهي واحدة من أهم سلال الغذاء في العالم، وثاني أكبر حقول النفط والغاز، وثاني أكبر قوة نووية وعسكرية، وصاحبة مقعد دائم في مجلس الأمن يمنحها حق الفيتو، وتتمتع بقوة فضائية تاريخية ما تزال تمنحها مكانة في سباق الفضاء. لكن روسيا على المستوى السياسي تمثل نموذجا لحكم الفرد، وغياب المؤسسات، وتكريس نزعة الاستبداد، ومصادرة الحريات، ومع أنها ما تزال تتمتع بقوة الدفع التاريخي لحضارتها القيصرية و السوفييتية وثروتها البشرية، إلا أن نفوذها العالمي يتضاءل في مجالات العلوم والفنون، وهو ما يقلل إلى حد كبير قدرتها على ممارسة النفوذ بأدوات القوة الناعمة.
الخطر الأكبر الذي يهدد روسيا في العقود الأخيرة ليس توسع حلف الناتو، لكنه تآكل النظام السياسي الروسي واختصاره في شخص فلاديمير بوتين. هذا الخطر يمثل الوصفة النموذجية للفوضى في حال محاولة التغيير. ويردد بوتين نفسه في خُطبه إلى الروس ما معناه "أنا الذي أحول بينكم وبين الفوضى"! ومن الصعب أن نرى في الوقت الحاضر ظروفا مشابهة لتلك التي أحاطت بعزل نيكيتا خروتشوف بواسطة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في أكتوبر 1964 أي بعد عامين فقط من أزمة الصواريخ الكوبية؛ فلا الحزب الشيوعي يحكم، ولا بوتين يخضع للمساءلة من جانب أي مؤسسة. وقد أظهرت الصور المنشورة أخيرا للقاءاته مع وزيري الخارجية والدفاع: "لافروف" و "شويغو" قدرا كبيرا من القلق والاضطراب على وجهي الوزيرين. لكن عدم وجود سلطة للمساءلة يمنع، في الأجل القصير على الأقل، فرص إزاحة بوتين.
ومع أن بوتين رد على تكثيف العقوبات الغربية بإعلان حالة التأهب النووي، ومواصلة التقدم العسكري في أوكرانيا؛ فإن الرئيس الروسي ما تزال لديه خيارات سياسية وعسكرية سابقة بكثير للتهديد باستخدام القوة النووية، لتغيير مسار اللعبة، وتقليل احتمال تحول أوكرانيا إلى "أفغانستان". المسار الأول يتضمن التوصل إلى اتفاق هدنة مع الحكومة الأوكرانية مقابل الالتزام بعدم الانضمام إلى حلف الناتو، وتسوية مشكلة دونباس دستوريا على أساس اتفاق مينسك لعام 2015. وبمقتضى ذلك يسحب قواته تماما إلى داخل الحدود الروسية. لكن المفاوضات التي تجري حاليا شمال تشيرنوبل على الحدود بين بيلاروسيا وأوكرانيا لا تبدو مبشرة، خصوصا مع استمرار تقدم القوات الروسية صوب كييف. كذلك فإن بوتين أعلن أن أحد أهدافه هو التخلص من عصابة القوميين المتطرفين "النازيين" الذين يحكمون كييف. وذلك من شأنه أن يحد من فرص هذا المسار، وقد يجد الجيش الأوكراني حلا لذلك بابعاد زيلينسكي ووزير خارجيته.
المسار الثاني هو عقد صفقة مع مجموعة من ضباط الجيش الأوكراني للانقلاب على حكومة زيلينسكي خلال الأسابيع المقبلة، بعد فرض حصار على كييف، وإقامة حكومة موالية. وفي هذه الحالة يتم عقد اتفاق صداقة وتعاون بين الطرفين، وتنسحب القوات الروسية مع ترك مستشارين عسكريين، والاحتفاظ ببعض النقاط العسكرية الاستراتيجية، خصوصا على الحدود الغربية مقابل بولندا. ويضمن مثل هذا المسار لبوتين تحقيق أهدافه الرئيسية من الغزو. لكن ذلك لا يستبعد احتمالين: الأول صعوبة عقد صفقة إذا طالت مدة حصار كييف وزاد عدد الضحايا. الثاني هو بداية حركة مقاومة شعبية على غرار حرب العصابات في المدن ضد القوات الروسية. أما المسار الثالث فهو مواصلة التوغل في المستنقع الأوكراني، واقتحام كييف، والوقوع في فخ "أفغانستان" جديدة بإخضاع البلد لاحتلال عسكري كامل.
طبيعة الحروب العدوانية أنها لعبة صفرية كاملة، إما منتصر وإما مهزوم. وكان بوتين يستطيع تهديد أوكرانيا من خلال مواصلة الضغط من خلال "دونباس"، ومساعدة القوى المحلية الموالية له على التوسع داخل حدود الإقليم فقط، مدعومة بإمدادات عسكرية وقوات غير نظامية، لكن الرئيس الروسي اختار طريقا آخر، ربما لأن هدفه من الحرب ليس أوكرانيا فقط، وإنما يشمل إلى جانبها مولدوفا على الأقل. وكلما طال وجود القوات الروسية في أوكرانيا زادت ورطة بوتين. ومن المستبعد أن تهب الصين لنصرته عسكريا إلا إذا تعرضت لهجوم أمريكي مباشر في بحر الصين الجنوبي، أو هجوم من جانب اليابان أو استراليا بالتنسيق مع الولايات المتحدة، وهذه ستكون حماقة عظمى إذا ارتكبتها واشنطن.

د/ ابراهيم نوار
باحث متخصص في العلاقات الاقتصادية و النزاعات الدولية

كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي

تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.