مقالات

  08-08-2021

ثقوب في منظومة الخبز في مصر بين الدعم والحق في الغذاء

صحيح أن منظومة شراء القمح وإنتاج الخبز وتوزيعه هي منظومة فاسدة تحتاج إلى إعادة نظر، وأنها منظومة لا يجب أن تستمر، وما كان لها أن تستمر، لولا أن هناك جماعات مصالح قوية تتربح من فساد هذه المنظومة وتزداد ثراء على حساب القوت الرئيسي للفقراء، وهو «رغيف العيش» الملاذ الأهم الذي يجمع الأسرة على «طبلية» واحدة في الصباح أو في المساء.
ويعود فساد منظومة الخبز في مصر زمنيا إلى عقود طويلة مضت، بدأت تتشكل ملامحها الأولى في ستينات القرن الماضي مع نقص إنتاج القمح والذرة، ودخول الدولة إلى سوق إنتاج الخبز لضمان أسعاره. ثم تطور دورها، لتصبح المؤسسة الوحيدة المهيمنة على منظومة الخبز، من شراء القمح إلى صناعة الرغيف وتوزيعه بالسعر والنظام الذي تحدده.
ونشأت مع هذا التطور دوائر الشللية للمنتفعين من مافيا الوسطاء إلى بعض كبار الموظفين الفاسدين، باعتبار أن منظومة الخبز هي كعكة كبيرة وصل حجمها إلى أكثر من 80 مليار جنيه، يتقاسمها رجال أعمال وأصحاب مصالح ومسؤولين، حتى لا يتبقى منها للناس بعد ذلك إلا مرارة «رغيف العيش» وهو المصطلح الشعبي الأدق لكلمة «الخبز». ولن نتحدث هنا عن «الكعكة» ولكن عن ثقوب منظومة «رغيف العيش» التي تحتاج بكل تأكيد إلى إعادة نظر.
أولا: ثقب الاكتفاء الذاتي
وهو يرتبط بالسعي لتحقيق الأمن الغذائي وإصلاح الخلل التجاري والحد من ارهاق حساب الصرف الأجنبي. ونظرا لانخفاض نسبة الاكتفاء الذاتي من القمح فقد أصبحت مصر أكبر مستورد للقمح في العالم.
وطبقا للأرقام الرسمية، فإن كمية القمح المطلوب توفيرها هذا العام تصل إلى 8.6 مليون طن، منها 5.1 مليون طن قمح مستورد بنسبة 59 في المئة. وهو ما يعني أن نسبة الاكتفاء الذاتي قد ارتفعت إلى 41 في المئة مقابل 34.5 في المئة عام 2017. ويعتبر نجاح الحكومة في رفع نسبة الاكتفاء الذاتي خلال الأعوام الأخيرة تطورا إيجابيا مبشرا، حققته بفضل توليفة من سياسات رفع إنتاجية الفدان، وزيادة المساحة المنزرعة بالقمح، خصوصا في الأراضي المستصلحة حديثا.
وطبقا لتقديرات الحكومة، فإن متوسط سعر استيراد القمح في السنة المالية الحالية يبلغ 255 دولارا للطن، وهو ما يعني ان تكلفة استيراد القمح (تسليم على ظهر السفينة) يبلغ حوالي 20.3 مليار جنيه، أو 1300 مليون دولار. ومع أن هذه القيمة تعادل 2.4 في المئة فقط من قيمة الواردات غير النفطية لعام 2019/2020 إلا أنها تعتبر مسؤولة عن 11.6 في المئة من العجز في الحساب الجاري في ذلك العام. وكلما استطاعت مصر سد ثغرة الاكتفاء الذاتي، فإن ذلك من شأنه أن يساعد على سد فجوة الأمن الغذائي وتحسين الحساب الجاري والعجز التجاري، ومن ثم الإسهام في تحسين التوازن الكلي للاقتصاد.
ثانيا: ثقب المواصفات
والقيمة الغذائية
وهو يرتبط بتخفيض مستوى المواصفات المطلوبة في القمح المستورد، لغرض التوفير في التكاليف، مما يؤدي للإضرار بالصحة العامة للمواطنين. وتشير الأرقام المتاحة عن محصول القمح العالمي هذا العام إلى إنتاج وفير، وهو ما أدى إلى انخفاض أسعار التعاقدات الجديدة.
وبمقارنة السعر المفترض لاستيراد القمح مع الأسعار الفعلية للتعاقدات في الموسم الحالي، نجد أن السعر الوارد في الميزانية يزيد عن متوسط الأسعار للقمح الممتاز في رومانيا بنحو 38 دولارا في الطن. ونضيف إلى ذلك أن مصر لا تستورد القمح الممتاز الذي لا تقل نسبة البروتين فيه عن 12.5 في المئة، وإنما تتعاقد على استيراد قمح بنوعيات أقل تنخفض نسبة البروتين فيه إلى ما دون 12 في المئة، وهو ما يؤثر سلبا على نوعية الخبز المنتج منه.
وكانت مصر منذ عام 2011 تشترط ألا تقل نسبة البروتين في القمح المستورد عن 12.5 في المئة للقمح الكازاخستاني، و 12 في المئة للقمح الروسي، و11.5 في المئة للقمح المستورد من بقية أنحاء العالم.
لكن الحكومة خفضت هذه النسب تدريجيا بهدف تخفيض فاتورة الاستيراد. وتبلغ نسبة البروتين المصرح بها حاليا 11.5 في المئة للقمح المستورد من روسيا، و11 في المئة للقمح الروماني والأوكراني، و12 في المئة للقمح الطري الأمريكي. ويعتبر تخفيض درجة المواصفات للقمح المستورد واحدا من الأساليب المهمة التي استخدمتها الحكومة لتخفيض فاتورة الاستيراد، ومن ثم فاتورة الدعم.
ويتسبب تدهور مواصفات القمح المستورد في فقدان جزء مهم من كمية ونوعية الخبز المنتج بسبب ارتفاع نسبة الفاقد الذي لا تستطيع المخابز تصريفه للمستهلكين، فينتهي به الأمر علفا للمواشي، لأنه ببساطة لا يصلح لأن يكون غذاء للآدميين. ولذلك فمن الضروري رفع مواصفات القمح المستخدم في صناعة رغيف العيش، بغرض تقليل الفاقد وتحسين مستوى الصحة العامة للمواطنين وزيادة قدرتهم على الإنتاج.
كذلك خفضت الحكومة وزن رغيف العيش من 130 جراما إلى 110 جرامات، ثم إلى 90 جراما، فخسر الرغيف حجمه الذي يشتغل في ملء المعدة، بعد أن خسر نوعيته التي تسهم في بناء الصحة.
ثالثا: ثقوب الفساد
وترتبط بعمليات الاستيراد وشبكات العلاقات المشبوهة بين مافيا الوسطاء ورجال الأعمال وبين بعض المسؤولين، والفساد في عمليات التوريد المحلي، والفساد في محطات التسليم والصوامع وتوزيع حصص الدقيق على المخابز وسوء عملية الخبيز، والتلاعب في البطاقات التموينية لدى التجار.
وبالنسبة لهذه الثقوب نلاحظ أن نشاط الرقابة الإدارية قد تراجع كثيرا في العامين الأخيرين، مقارنة بما كان عليه الحال في السنوات الأولى لحكم الرئيس السيسي، عندما كانت الرقابة الإدارية تبذل مجهودا أكبر في تتبع وكشف الانحرافات في الجهاز الإداري للدولة. أيضا فإن هذه الثقوب تتسع مع انخفاض مستوى الشفافية في إدارة العلاقات بين الحكومة والقطاع الخاص، بسبب التوسع في ترسية العقود والمقاولات بنظام الأمر المباشر، رغم ما قد تكون فيه من مزايا.
إن نظام إسناد الأعمال والتخصيص بالأمر المباشر يقلل مستوى المنافسة في السوق، ويشجع على زيادة حدة الاحتكار، واتساع فجوة الثروة في المجتمع بين أقلية تملك ولا تعمل وتتربح من علاقتها بالدولة، وأكثرية واسعة تعمل ولا تملك، وتمثل وعاء واسعا لجباية الضرائب المباشرة وغير المباشرة
رابعا: ثقب تضخيم
دعم الخبز في الميزانية
قدرت الحكومة سعر استيراد القمح بنحو 255 دولارا للطن في المتوسط، في حين أن الأسعار الفعلية للتعاقدات حاليا تنخفض عن السعر المقدر بحوالي 38 دولارا في الطن بنسبة 15 في المئة تقريبا، وذلك لأنواع القمح الممتازة.
فإذا أخذنا في الاعتبار حقيقة أن الحكومة تستورد القمح بمواصفات من الدرجة الثانية والثالثة، حيث تقل أسعار التعاقدات عن 200 دولار للطن، فإن الحسابات المعدلة لتكلفة الاستيراد، تقل عن التقديرات الحكومية بنسبة تتراوح بين 25 إلى 30 في المئة. وهذا يعني أن الحكومة تبالغ في فاتورة دعم الخبز، التي تقدرها بحوالي 44.8 مليار جنيه في ميزانية السنة المالية الحالية.
ويمثل دعم الخبز نصف قيمة دعم السلع التموينية، وما يقرب من 14 في المئة فقط من إجمالي قيمة الدعم، ويستفيد منه نحو71 مليون مواطن بواقع 175 قرشا في اليوم لكل مواطن، فهل ضاقت الدنيا بالحكومة حتى تقتطع هذا المبلغ، الذي يعني الكثير جدا للفقير؟!
الأكثر من ذلك أن المبالغة في حساب أرقام الدعم في الميزانية تخفي مقدارا كبيرا من التحايل، بغرض تضخيم مخصصات الإنفاق الاجتماعي. وفي هذا السياق فإنني أنقل عن تقرير الحساب الختامي الرسمي للسنة المالية 2019/2020 أن نسبة المنصرف الفعلي كانت أقل من 70 في المئة من مخصصات الدعم في العام الماضي، مقابل 99.6 في المئة في عام 2016/2017.
وهذا يعني أن الحكومة تبالغ في حساب قيمة الدعم في بيان الميزانية، ثم تخفضها في التنفيذ الفعلي، بنسبة وصلت إلى حوالي 30 في المئة في العام الماضي. كذلك فإن نسبة المنصرف الفعلي على الدعم من الناتج المحلي الإجمالي تراجعت في العام الماضي إلى 12 في المئة فقط، مقارنة بـ 21 في المئة عام 2016/2017.
كما انخفضت نسبة الدعم من جملة المتحصلات الضريبية إلى 18 في المئة فقط في العام الماضي مقارنة بـ 56 في المئة في عام 2014/2015! هذا يعني أن الحكومة استطاعت فعلا تخفيض الدعم بدون المساس بسعر رغيف العيش.
ومع ذلك فإن الحكومة ما تزال تستطيع تخفيض قيمة دعم «رغيف العيش» بإصلاح منظومة الخبز، وتدقيق أرقام الدعم، سواء العدد الحقيقي للمستفيدين، أو تكلفة الاستيراد والإنتاج، وذلك لتوفير التمويل اللازم لمنظومة تغذية أطفال المدارس، وهي منظومة تعج أيضا بالفساد، مثلها مثل منظومة توريد الأغذية للمرضى في المستشفيات.
وتبلغ تكلفة دعم التغذية المدرسية في ميزانية السنة الحالية 6.2 مليار جنيه، يشارك في تمويلها البنك الدولي ومانحين أجانب آخرين، ويمكن تمويلها بالكامل من وفورات إصلاح منظومة الخبز، ومنظومة التغذية المدرسية نفسها، وليس بزيادة أسعار الخبز، الغذاء الرئيسي للفقراء.
إن إعادة النظر في منظومة رغيف العيش، تتطلب أولا إزالة التشوهات الناتجة عن المبالغة في تكلفة الدعم، وسد الثقوب في منظومة إنتاج وتوزيع الرغيف ومنع التربح منها، مع ربط تطوير هذه المنظومة بمستوى الفقر، وتوفير احتياجات الضمان الاجتماعي، والالتزام بحق الأفراد في غذاء صحي، طالما أن كل فرد يدفع ضريبة مباشرة على دخله من عمله، وضريبة غير مباشرة على ما يستهلكه من سلع وخدمات.
كل مواطن في مصر، بمن فيهم الشديد الفقر، هو دافع للضرائب، سواء كان لديه سجل ضريبي أم لا، لأنه يشتري سلعا محملة بضريبة القيمة المضافة.
صحيح أن رفع سعر رغيف العيش إلى 10 قروش قد يوفر لخزانة الحكومة حوالي 12 مليار جنيه، لكنه سيوقع أضرارا بالغة بنحو 70 مليون مصري يدفعون ضرائب على الدخان والسجائر فقط بقيمة 80 مليار جنيه، أي ما يقرب من ضعف قيمة دعم رغيف العيش، على ما فيها من مبالغة، كما يدفع المصريون ومنهم الفقراء، ضرائب قيمة مضافة بقيمة 391 مليار جنيه، وهو ما يتجاوز قيمة الفاتورة الكلية للدعم بكل أنواعه.
ويبقى أن نقول إن الأطفال سيكونون أول ضحايا رفع أسعار الخبز، لأن احساسهم بالفقر سيتحول إلى إحساس بالجوع، فرفقا بهم.

د..ابراهيم نوار
كاتب و باحث متخصص في العلاقات الاقتصادية والنزاعات الدولية

كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي

تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.