18-08-2025
لم يعد التعليم مثل الماء والهواء كما قال وزير “المعارف العمومية” الراحل الدكتور طه حسين. ولم يعد محرك الاستثمار في التعليم هو نشر المعرفة وإنما أصبح المحرك الأول هو تحقيق الربح لأصحاب متاجر بيع الشهادات الدراسية. ومع انكماش سوق العمل، وعجز كل من الدولة والقطاع الخاص عن توفير القدر الكافي من فرص العمل الملائمة، سينتهي دور التعليم كوسيلة للارتقاء الاجتماعي، ويصبح مجرد طريق للحصول على شهادة يتستر وراءها أبناء القادرين، للحصول على أفضل فرص العمل المتاحة أو البدء في أعمالهم الخاصة أو الالتحاق بأعمال العائلة. مثل هذه الشهادة، لا قيمة لها غالبا في سوق العمل، و لن تكون حافزا كافيا للإقبال على التعليم. في ظل هذا الوضع فإننا لا نستطيع توجيه اللوم الى القطاع الخاص الباحث عن تعظيم أرباحه، بقدر ما نلوم الدولة التي تتنكر لدورها الاجتماعي، وتتخلى عن مسؤوليتها في تنمية الثروة البشرية، وتعتقد عن جهل أن البنيان هو الحجر وليس الإنسان. ومن ثم فإنها تفتح فراغا واسعا يسعى القطاع الخاص إلى ملئه والتربح منه.
وتقدر حصة القطاع الخاص في الاستثمارات التعليمية حاليا بحوالي 10% طبقا لبيانات الإنفاق الحكومي، لكن النسبة الحقيقة قد تزيد كثيرا عن ذلك، نظرا لأن ما يقرب من 70% من الإنفاق الحكومي على التعليم يذهب إلى مخصصات الأجور والمرتبات وليس إلى الاستثمار الأفقي والرأسي. وهناك جدل كبير حول مدى التزام الحكومة بالنسب الدستورية للإنفاق على التعليم والبحث العلمي، يصعب حسمه في ظل عدم كفاية البيانات الحكومية وانخفاض جودتها. و رغم ذلك فإن الحقيقة التي يصعب إنكارها هي أن التعليم الخاص يتوسع سنويا بمعدلات سريعة، في حين ينكمش حجم التعليم الحكومي وتتدهور كفاءته، ويتعرض من داخله لخصخصة جزئية من خلال الشراكة مع القطاع الخاص، وإنشاء أقسام بمصروفات داخل كليات الجامعات الحكومية.
وتختلف سياسات إدارة التعليم من بلد لآخر حتى في الدول الرأسمالية. ففي فنلندا، التي تحتضن واحدا من أفضل نظم التعليم في العالم، تقوم الحكومة بالدور الرئيسي في إدارة التعليم وتمويله وتوجيهه، على اعتبار أن التعليم المجاني هو خدمة اجتماعية أساسية يجب إتاحتها على أعلى مستوى لجميع المواطنين، من مرحلة ما قبل التعليم الأساسي الى نهاية التعليم الجامعي. وتعتمد بريطانيا الرأسمالية على نظام هجين، وإن كانت الدولة تقوم فيه بالدور الرئيسي في مرحلة التعليم قبل الجامعي، و تشارك مؤسسات مجتمعية مثل الكنائس والجمعيات الخيرية في تمويل التعليم العام. كما تتيح الدولة أنظمة مختلفة لتمويل التعليم الجامعي لغير القادرين، بجانب الدور الذي تقوم به الجمعيات الخيرية وصناديق الاستثمار المملوكة للجامعات نفسها، التي تغذيها الهبات والتبرعات. القاعدة العامة في إدارة التعليم في بريطانيا هي توفير كل ما يحتاجه التلميذ أو الطالب بدون عناء، بما في ذلك مصاريف الدراسة والكتب والإقامة والغذاء. أما في بلدان مثل الصين وفيتنام، فإن التعليم هو التزام من جانب الدولة بالكامل.
ويثير توسيع دور القطاع الخاص في التعليم في مصر ثلاثة أسئلة أساسية، الأول عن الهوية التعليمية والتوجهات الأكاديمية، والثاني عن تكافؤ الفرص، والثالث عن تأثير عامل الربح على العملية التعليمية بأكملها. في هوية التعليم
نلاحظ وجود فوضى في المناهج التعليمية. فأنت تستطيع أن تحصل في مصر على ما تشاء من التعليم في كل المراحل. في المدارس الدولية يوجد النظام الأمريكي، والبريطاني، والألماني، والياباني وغيرها. كما توجد مدارس المتفوقين في العلوم والرياضيات والتكنولوجيا. ويشكل كل نظام مجتمعا قائما بذاته تقريبا. و لتصحيح هذا الوضع يتعين وجود مجلس مستقل للمناهج التعليمية لا يمنع تنوعها ولكن يضمن تناسقها. كما يجب إنشاء مجلس مستقل لوضع الامتحانات وتقييم الأداء التعليمي.
السؤال الثاني يتعلق بحرمان غير القادرين من فرص التعليم الملائمة نتيجة اتساع نطاق الفقر، وتدهور مستويات التدريس في المدارس الحكومية، وارتفاع أسعار التعليم من خلال السناتر الخاصة، والتباين في معدلات القبول بين الكليات الحكومية والخاصة والدولية. ولعلاج ذلك يتعين إنشاء صندوق أهلي مستقل للمنح التعليمية للمتفوقين من أبناء غير القادرين، مع استمرار برامج المنح التي تقدمها بعض المؤسسات الخاصة القائمة.
أما السؤال الثالث، فإنه يتعلق بالتناقض بين معايير تقييم شركات الاستثمار التعليمي بالبورصة ومعايير قياس نجاحها بمستوى الكفاءة التعليمية. فالشركات المسجلة في البورصة يقاس نجاحها بمُعامِل الربحية، وليس معامل جودة الخدمة التعليمية. وتجد هذه الشركات أن من مصلحتها التركيز على خدمة القادرين فقط، وهم شريحة ضيقة جدا من المجتمع، وتقديم ما يروق لهم. و بذلك تفقد الخدمة التعليمية وظيفتها المدمجة كطريق للمعرفة، وسلم للارتقاء الاجتماعي، وأداة لإعداد جيل جديد من رواد التنافسية.
هذه الأسئلة بشأن كفاءة النظام التعليمي تطرح بقوة ضرورة الإصلاح. ويبدأ الإصلاح من الرأس وليس من أظافر القدمين. ومن الضروري أن تكون لدينا سلة من المعايير الحاكمة في مسألة إصلاح النظام التعليمي. وفي مقدمة هذه المعايير العودة إلى مبدأ طه حسين في أن “التعليم مثل الماء والهواء”. وأن يمتد نطاق التعليم العام إلى جميع قطاعات ما قبل التعليم الجامعي. وحتى يكون التعليم العام مثل الماء والهواء، يجب إزالة كل القيود التي تحرم أبناء غير القادرين (مع ملاحظة أن تعريف غير القادرين يشمل الآن شرائح من الأسر التي تنتمي للطبقة المتوسطة) من الحصول على تعليم جيد متكامل العناصر. ومن حق هؤلاء الحصول على مقابل مُستَحَق يكافئ على الأقل عنصرين من عناصر الإيرادات هما تحويلات العاملين في الخارج، وحصيلة ضريبة القيمة المضافة التي يدفعها الغني والفقير بنفس النسبة رغم تفاوت الدخل. لقد برهنت عائدات صادرات العمل على أنها منجم الذهب الذي يزيد ولا ينضب. وحتى تزيد قيمتها و ترتقي وجب إصلاح التعليم بلا لف ولا دوران، ولا تلاعب بالبيانات. التعليم ينهار، وإنفاق الدولة عليه يتراجع بالحسابات الحقيقية. وأظن أن التعليم العام يستحق زيادة الإنفاق الحكومي في المرحلة الحالية بنسبة تصل إلى 9% من الناتج المحلي الإجمالي، وليس 4% فقط كما ينص الدستور. وبدلا من أن تغدق الحكومة على أصحاب الديون بالإنفاق على الفوائد (حوالي نصف المصروفات في الميزانية العامة للسنة المالية الحالية)، فإن الأولى هو زيادة الإنفاق على التعليم.
نشر المقال في جريدة الأهالي في 6 أغسطس 2025
كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي
تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.