مقالات

  03-02-2024

انتهى زمن الحلول الجزئية

انتهى زمن الحلول الجزئية فرفع سعر الفائدة لن يكبح التضخم ولن ينعش النمو ولن يضبط ميزانية الدولة الغارقة في الديون.

وصلنا اقتصاديًا لمرحلة لا تجدي معها أنصاف الحلول، ولا يجدي معها استخدام أداة واحدة من أدوات العلاج (تحريك سعر الفائدة وحده، أو تحريك سعر الجنيه وحده أو غير ذلك من الأدوات)، ولا تجدي معها المناورات ومحاولات الالتفاف ولا يجدي معها التأجيل لعل مائدة تنزل علينا من السماء، ولا يجدي معها الكذب أو دفن الرؤوس في الرمال، ولا تجدي معها الأوامر الإدارية أو استخدام الأمن البوليسي في تأمين الاقتصاد.

وصلنا لمرحلة جربنا فيها كل ذلك وفشلت كل التجارب، ويجب أن نعلم أن إعادة استخدام تلك الأدوات مرة بعد مرة بعد أن فشل كل منها في تحقيق الغرض لن يؤدي إلا إلى الفشل مرة وألف مرة.

وصلنا لمرحلة تحتاج فيها مصر إلى حكومة تكنوقراط ذكية، مستقلة، لها صلاحيات كاملة، لا يتدخل في إدارتها أحد، ولا يملي عليها شروطه أحد.

مصر تحتاج إلى حكومة لديها رؤية بسيطة وواضحة: أن تأخذ سفينة هذا البلد من المياه الضحلة التي وقعت فيها إلى بحر هادئ تستطيع الإبحار فيه بأمان إلى الاستقرار واليقين والإنتاج بلا قيود، وبناء أسس تأمين الاقتصاد ضد الصدمات المفاجئة، وقد كثرت من حولنا هذه الصدمات جيوسياسيا وبيئيا واقتصاديا، ثم الشروع في بناء اقتصاد منتج قادر على المنافسة في عالم مفتوح، والمساعدة على بناء مجتمع يشعر فيه الفرد بآدميته وكرامته، وترتبط فيه الدولة مع المجتمع بروابط صحية إيجابية.

قرار البنك المركزي أمس برفع سعر الفائدة بنسبة 2% إلى 21.25 - 22.25% لا قيمة له، مع كل الاحترام للمبررات التي استند إليها، فسعر الفائدة الجديد أقل من معدل التضخم ولن يكبحه، كما أنه أقل من سعر الفائدة على أذون الخزانة التي تقترض بها الحكومة من البنوك. فلأي غرض قرر البنك المركزي زيادة أسعار الفائدة بنسبة 2%؟

بيان لجنة السياسة النقدية جاء فيه أن معدل نمو الناتج المحلي تباطأ في الربع الثالث من العام الماضي (2023) بمقدار 0.2 نقطة مئوية إلى 2.7% مقارنة ب 2.9% في الربع الثاني. كما تدل المؤشرات الأولية إلى أن معدل النمو في الربع الأخير سيكون أقل من الربع الثالث. فهل رفع أسعار الفائدة على هذه الخلفية يعزز فرص النمو؟

على العكس تماما، فإن أحد الضغوط الرئيسية على محركات نمو الاقتصاد هو أسعار الفائدة المرتفعة.

المستثمر الذي يريد أن يقترض لتعويم مشروعه أو توسيعه لن يفعل، لأن سعر الفائدة الأساسي عند معدل 21.25% هو سعر رادع.

يوم الأحد ستبدأ البنوك رفع أسعار الإقراض والإيداع عن مستوياتها الحالية بنسبة 2% على الأقل بالنسبة للإقراض. ومن ثم ستتوقف طلبات الاقتراض، ويستمر ركود القطاع الخاص للعام الثالث على التوالي. ويتوقع البنك في بيانه أن يتباطأ النمو في السنة المالية الحالية 23/24. وقد أنبأنا صندوق النقد الدولي بتخفيض معدل النمو المتوقع إلى 3% في السنة المالية الحالية، بدلا من التوقع السابق بمعدل نمو يصل إلى 3.6%.

بيان لجنة السياسة النقدية للبنك المركزي أشار إلى استمرارية الضغوط التضخمية وارتفاعها عن نمطها المعتاد، وقال أنه يتوقع استمرار تلك الضغوط في ضوء إجراءات ضبط المالية العامة، وكذا تواصل الضغوط من جانب العرض. بالإضافة إلى ذلك، ساهم ارتفاع معدل نمو السيولة المحلية عن متوسطه التاريخي في تصاعد الضغوط التضخمية.

فهل زيادة أسعار الفائدة تؤدي إلى تقليل الضغوط التضخمية؟

وهل تؤدي إلى تخفيف الضغوط على جانب العرض؟

وهل يتوافق رفع أسعار الفائدة مع ارتفاع معدل نمو السيولة المحلية الذي اعترف البنك المركزي بأنه أحد أسباب تصاعد الضغوط التضخمية؟

إن زيادة أسعار الفائدة لن تؤدي إلى امتصاص السيولة طالما أن معدل نمو السيولة المحلية يجري بسرعة مثل العربة الطائشة بلا كابح. ولن يؤدي إلى تخفيض الضغوط التضخمية لأن الدولة، وهي اللاعب الاقتصادي الرئيسي في السوق، تقود التضخم إلى أعلى بسياسة مالية توسعية بينما البنك المركزي يستخدم أدوات السياسة النقدية الانكماشية! فكأن المالية العامة للدولة بأكملها جيب مفتوح من الجهتين.

وعلينا أن نعترف بأن البنك المركزي يجب أن يكون مستقلا، وأن يخضع نمو السيولة لمعايير الشفافية والأمان النقدي. في حقيقة الأمر أن ما يشير إليه البنك المركزي من أن "إجراءات ضبط المالية العامة" تمثل أحد أسباب استمرار الضغوط التضخمية هو صحيح تماما، لكن البنك ليس من اختصاصه التدخل في السياسة المالية، وهي أحد مصادر استمرار الضغوط التضخمية. هذه مسؤولية الحكومة. ولا يجب أن نعفيها من الخطأ.

الضغوط التضخمية ستطلق موجة جديدة من ارتفاع الأسعار. ونظرا لأن الجنيه وليس سعر الفائدة هو المتغير الأكثر ارتباطا بمعدل التضخم حاليا، فإن المضاربات في السوق السوداء تظل سيد الموقف، وتظل المنظم العشوائي للسياسة النقدية بلا منازع .. لا البنك المركزي.. ولا البنوك .. ولا الحكومة.. إنهم جميعا مجرد أصفار على يسار السوق السوداء، وهي سوق خلقتها الحكومة بالإدارة الخاطئة لسياسة سعر الصرف من خلال سلب سلطات البنك المركزي و التحكم في قراراته. ولا علاقة لسعر الفائدة بأسعار الذهب، لأن سعر الذهب مرتبط بالدولار والسوق السوداء. ومن نافلة القول أن ننفي في حالتنا هذه أي تأثير حقيقي لقرار البنك المركزي أمس على المستوى العام للأسعار الذي تتحكم فيه محركات أخرى.

وطالما أن الحكومة تنفق بلا رادع من أسعار الفائدة المرتفعة، وتزيد إنفاقها على مشاريع غير منتجة بلا رداع من تكلفة الديون وأحمالها المستقبلية، فإن الركود مستمر.. والتضخم مستمر.. وسوف تظل الحكومة تقترض لكي تسدد قروضا سابقة، داعية الله أن ينزل إليها مائدة عامرة من السماء! وفي ذلك ستكون مصر ضعيفة، يتنافس قطاع الطرق على سلبها ما تبقى لها.

ومن الخطأ أن يعتقد البنك المركزي أنه يستطيع التغلب على الضغوط في جانب العرض أو في جانب الطلب العام الذي تديره الحكومة بموارد مدينة. ومن الخطأ أن يعتقد أنه يستطيع التغلب على التداعيات المالية للصدمات الجيوسياسية التي تتعرض لها مصر من حرب غزة، والحرب في جنوب البحر الأحمر، والحرب في السودان، والحرب في ليبيا.

مصر محاصرة بالحروب من كل جانب، و حتى تستطيع مواجهة التداعيات الاقتصادية للصدمات الجيوسياسية، والقصور في الأداء الاقتصادي، يجب ترك الأمر إلى حكومة كفاءات تكنوقراطية، يتم تفويضها، ومنحها صلاحيات كاملة بمقتضى التفويض المكلفة به علنا، باتخاذ كل ما يلزم من أجل إخراج السفينة من المستنقع، وإطلاقها لكي تبحر في بحر هادئ وآمن ومستقر، يقود إلى سكة السلامة وليس إلى سكة الندامة.

ويجب أن نعلم أن الوطنية من الولاء للوطن، و أن الوطنية الحقة من التفاني والإخلاص في العمل لتحقيق ما يحتاجه هذا الوطن وليس لتحقيق مصالح خاصة.

لا البنك المركزي الحالي، ولا الحكومة الحالية، ولا الحوار الوطني المزعوم، ولا الهيئات التشريعية التي دُفِعت تحت أسماعها وأبصارها سفينة الوطن إلى المستنقع الحالي، تقدر على تعويم سفينة هذا الوطن، بعدما حل بها وما آلت إليه، بعد أن دُفعت دفعا إلى مستنقع ضحل تقف فيه بلا حراك. وأقول إنها لن تفلس.. إنها لن تغرق.. إنها لن تموت. بل ستعبر هذه المحنة وستبحر في أمان بإذن الله.

د/ابراهيم نوار

باحث متخصص في العلاقات الاقتصادية والنزاعات الدولية

عضو مجلس أمناء المصري الديمقراطي الاجتماعي

كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي

تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.