مقالات

  10-09-2025

استقرار مصر يبدأ بالإنصاف

في مقالي السابق "استقرار مصر يبدأ من هنا"، طرحتُ سؤالًا جوهريًا: كيف تُبنى الدول القوية؟ وكانت الإجابة التي حاولت تقديمها أنالاستقرار لا يصنعه الاقتصاد وحده، ولا الأمن، ولا البنية التحتية، بل يبدأمن العلاقة بين المواطن ووطنه… علاقة تقوم على الانتماء الحقيقي والثقةالمتبادلة.

واليوم، نكمل هذا الطرح من زاوية لا تقل أهمية، بل هي أحد جذور الخللفي هذه العلاقة: كيف تؤدي اختلالات التقدير داخل المجتمع إلى اهتزازالانتماء، وانهيار الثقة، وتراجع الإبداع؟

فالعلاقة بين الإنسان ووطنه لا تنفصل عن شعوره بمكانته، وقيمة مايقدّمه، ومدى ما يُقابل به من تقدير وعدالة. وعندما يرى المواطن أن الجهديُهمّش، وأن القيمة يُزاح عنها، وأن الشهرة والسطحية تحل محل الكفاءةوالإخلاص… يبدأ شعوره بالانتماء والتقدير في التآكل تدريجيًا.

في مصر، باتت الفجوة في التقدير المعنوي والمادي بين أصحاب المهنالجوهرية—كالطبيب، والمعلم، والباحث، والقاضي—وبين نجوم الفن أوالرياضة أو صُنّاع التريند، فجوة صادمة. لا يتوقف الأمر عند فارقالدخل، بل يتجاوزه إلى النفوذ، والاحترام، والرمزية. فمن يملك الشهرةيملك الصوت الأعلى، بينما من يزرع القيمة يُدفع إلى الهامش.

الأزمة ليست في نجاح لاعب أو فنان، بل في الرسالة التي يلتقطهاالمجتمع بأكمله: أن الجهد لم يعد طريقًا للنجاح، وأن العلم لم يعد مفتاحًاللمكانة، وأن الظهور على الشاشة أهم من التأثير في الواقع.

وهكذا، تتشكل معايير جديدة للقدوة. لم يعد الطفل يرى قدوته في معلّم أوطبيب أو مهندس، بل في من يملك ملايين المتابعين، أو يتصدر محركاتالبحث. يتكوّن وعيه على أن النجاح لا يحتاج إلى علم أو التزام، بل إلىانتشار، ومهارة في تسويق الذات.

ولأن القيم الحاكمة لأي مجتمع تنعكس مباشرة على سلوك أفراده، فقدبات من الطبيعي أن نرى تراجعًا في الإتقان، وفقدانًا للدافعية، وعزوفًاعن التميز في العمل. فما الدافع للإبداع إذا كان لا يُقابل بتقدير؟ وماقيمة الإنجاز إذا غابت العدالة في الاعتراف به؟

ومع مرور الوقت، يتوسّع الأثر: فالكفاءات تهاجر بحثًا عن التقدير،ويتراجع الأداء المؤسسي بسبب غياب الحافز، وتنشأ أجيال ترى فيالتعليم عبئًا لا وسيلة للارتقاء، ويبدأ الانتماء في التآكل بصمت.

من يُعيد ترتيب القيم؟ مسؤولية الدولة والإعلام

جزء كبير من هذا الخلل يمكن معالجته، إذا توفرت الإرادة. فالدولة لا تملكفقط الموارد، بل تملك الأدوات التي تصنع النموذج وتشكّل وعي الأجيال: الإعلام، التعليم، الثقافة، الدراما، والسياسة العامة.

يمكن للإعلام الرسمي والخاص، إن أراد، أن يعيد الاعتبار للعقولوالكفاءات، لا بالخطاب الإنشائي، بل بتصدير القدوة الحقيقية. يمكنللدراما أن تعيد مكانة الطبيب والمعلم إلى الشاشة، وللبرامج الحوارية أنتحتفي بمن يُنجز لا بمن يَصرخ، وللمؤسسات التعليمية أن تربي أطفالهاعلى أن “من يتعب يُكرَّم”.

لكن كل ذلك لن يحدث تلقائيًا. الأمر يحتاج إلى رؤية واعية، وقرار واضح،وتوجيه منهجي يعيد ترتيب سلم القيم في المجتمع. فالأمم لا تنهض فقطبالبنية التحتية، بل بالبنية القيمية التي تحدد من نحترم، ومن نقلّد، ومننصنع منه قدوة.

إذا كنا نبحث عن استقرار حقيقي…

فعلينا أن ندرك أن هذا الاستقرار لا يُبنى بالإنشاءات وحدها، ولا يتحققبالشعارات المؤقتة. الاستقرار الحقيقي يبدأ من إنصاف الناس، ومن بناءعلاقة تقوم على التقدير لا الإهمال، وعلى الاعتراف بالجهد لا الاحتفاءبالصخب. إن كنا نريد دولة تُحترم من أبنائها، فلا بد أن يشعر كل مواطنأن له قيمة، وأن جهده لا يضيع، وأن مكانته لا تُحدَّد بمدى ظهوره، بل بمايُقدّمه فعليًا.

إذا أرادت الدولة أن تبني وطنًا يثق فيه أبناؤه، فلتبدأ بإعادةالاعتبار للقيمة الحقيقية… قيمة من يُعلّم، ومن يُعالج، ومنيُدافع، ومن يُنتج… لا من يتصدر المشهد فقط لأنه يُغنّي، أويلعب، أو يصنع التريند.

استقرار مصر يبدأ بالإنصاف

إيهاب أبو سريع

أمين الهيئة العليا للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي

نشر المقال على موقع فكر تاني 4 أغسطس 2025

كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي

تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.