03-10-2019
قلنا أكثر من مرة إن الفتيل المشتعل لا يحدث بذاته تفجيرًا، ولكن التفجير يحدث عندما توجد شحنة قابلة للانفجار عند الطرف الآخر من الفتيل. وكنا نرد بهذا المثال على الاتهامات المتكررة لثورة يناير بأنها محض مؤامرة خارجية بتواطؤ داخلي.
وبنفس القياس، فما كان يمكن لحملة الفيديوهات التي شغلت المصريين طوال الأسابيع الثلاثة الماضية أن تحدث هذا التأثير الشعبي، والرسمي، لولا وجود أسباب موضوعية للغضب، ولولا وجود قصور من جانب مؤسسات النظام في إدراك هذا الغضب وأسبابه.
بالطبع، لا داعي لاستعراض مظاهر الاحتجاج الشعبي المحدود في الشوارع، والواسع على شبكات التواصل الاجتماعي. ولا داعي أيضًا للتذكير بكثافة التدابير الأمنية الساعية لمنع خروج مظاهرات كبيرة. هذه كلها أمور تؤكد وجود أزمة متعددة الأبعاد.
تتمثل جذور هذه الأزمة في شعور قطاع كبير من أفراد الطبقة الوسطى والدنيا، ممن تحملوا العبء الأكبر لسياسات الإصلاح المالي والنقدي، بالصدمة من مفارقة التقتير عليهم والإسراف على أمور أخرى. وهو يترافق مع استمرار الحديث الرسمي عن ضرائب جديدة فى الطريق، واستمرار التحايل الإداري لتوسيع الجباية من جيوبهم، الخاوية أصلًا، في غيبة مؤسسات سياسية تراجع أو تصحح، وفي غيبة كاملة لحرية التعبير بكل صورها، إلى جانب التهميش الممنهج للأحزاب السياسية والنقابات المهنية والعمالية، فضلًا عن التوسع غير المسبوق في حالات الحبس الاحتياطي لأصحاب الآراء المعارضة أو المختلفة.
وعلى الرغم من أن حشودًا كبيرة لم تتدفق للتظاهر، فإن هذا لا ينفي وجود الأزمة ولا يثبتها، لا يوجد ما ينفي أو يثبت أن غياب تلك الحشود يعود فقط إلى إجراءات الردع الهائلة، حتى أن تقديري الشخصي كان يرجح ألا نشهد مظاهرات حاشدة، لعدم يقين المواطنين من النتائج المحتملة لذلك، وقلقًا من ذكريات الإنفلات الأمني الذي أعقب يوم 28 يناير 2011.
وسط الصخب الذى اتسم به الجدل العام على كل المستويات، تطور الخطاب الموالي إلى الحديث عن الحاجة الماسة للإصلاح السياسي، ولسياسات اقتصادية جديدة أكثر ميلًا للعدالة الاجتماعية. وترددت في هذا الخطاب مطالبات ومقترحات برفع القيود المكبلة لحرية التعبير والتظاهر السلمي وتنشيط الأحزاب، والبدء فى ترتيبات إجراء الانتخابات المحلية وانتخابات مجلس الشيوخ.
وبعد أن كان حديث الإصلاح يدور فقط على أقلام بعض الكتاب وألسنة بعض المذيعين المقربين من دوائر بعينها في نظام الحكم، فإذا به ينتقل إلى مجلس النواب منذ الثلاثاء الماضي.
بغض النظر عن نتائج ومآلات هذا الحديث المفاجئ عن الاصلاح السياسي، فإنه أشبه بنوبة صحيان للحس السياسي المفقود، بل والممقوت من النظام. ولا جدال أن نوبة الصحيان هذه هي ردة فعل على نوبة مماثلة في الناحية الأخرى، أي لدى الرأي العام، الذي استعاد بعضًا من النبض السياسي، على نحو ما رأينا في الأسابيع السابقة.
ولا جدال أيضًا أن من أسباب نوبة الصحيان لدى بعض المسؤولين أو الموالين اكتشافهم أن الرصيد المفتوح (على بياض) من التأييد الشعبي للرئيس لم يعد مضمونًا على المدى الطويل، بما يستوجب إحداث نقلة نوعية في المشهد السياسي، مع تحفظ يجب الانتباه له، وهو أننا أمام أحاديث عامة مرسلة، أقرب إلى شعارات منها إلى المبادرات الشاملة أو الخطط الجادة، وهنا ترد تساؤلات وملاحظات عديدة.
فقد اعتدنا من السلطوية المصرية منذ قيامها عام 1952 على أنها لا تلجأ إلى فكرة الإصلاح السياسي إلا لاحتواء أزمة كبيرة، دون أن تكون مستعدة للمضي الى نهاية الشوط. فمثلًا لجأ جمال عبد الناصر بعد ضربة الانفصال السوري عن دولة الوحدة مع مصر إلى بناء ما سمّاه تحالف قوى الشعب العاملة في تنظيم سياسي واحد. أطلق عليه اسم الاتحاد الاشتراكي العربي، وأصدر ميثاقًا للعمل الوطني أقره مؤتمر موسع من القوى الشعبية، وأنشأ مجلسًا للرئاسة لضمان جماعية القيادة، ووضع دستورًا مؤقتًا، وأجرى انتخابات مجلس أمة جديدة، وشرع في تصفية المعتقلات. ولم تمر أشهر حتى تلاشى مجلس الرئاسة، واستقال بعض أعضائه. ولم يكد يمضي عامان حتى خضعت الرأسمالية الوطنية (إحدى قوى الشعب العاملة) للتأميمات والمصادرات والحراسات. عادت الإجراءات الاستثنائية، بذريعة تصفية الإقطاع، وامتلأت المعتقلات مرة أخرى.
بعد هزيمة عام 1967، وما ترتب عليها من احتجاجات طلابية وعمالية، أصدر عبد الناصر بيان 30 مارس، وأجرى عليه استفتاءً شعبيًا يتضمن إلغاء القوانين والإجراءات الاستثنائية، وإعادة بناء الاتحاد الاشتراكي بالانتخاب وتشكيل المحكمة العليا. وعند التطبيق، جرت انتخابات مجلس الأمة على أساس التمييز بين مرشح الاتحاد الاشتراكي وبين المرشحين الآخرين، الذين لم ينجح منهم أحد، ثم أعقب ذلك مذبحة القضاء الشهيرة.
لم يختلف أنور السادات كثيرًا عن سلفه. تحت ضغط الجمود في المفاوضات مع إسرائيل لتحرير سيناء بعد اتفاقية فض الاشتباك الثانية، وتزايد السخط الشعبي على سياسة الانفتاح الاقتصادي الاستهلاكي، وعلى تفشي الفساد، وعلى تعمد إفشال القطاع العام، لجأ الرئيس إلى نقلته النوعية للمشهد السياسي بحل الاتحاد الاشتراكي، وإطلاق التعددية الحزبية في عام 1976. ثم كان هو نفسه من أفرغ هذه التعددية من مضمونها، متذرعًا بمظاهرات الخبز في يناير عام 1977، أو منتهزًا للفرصة، بما أفضى في نهاية المطاف إلى اعتقالات 5 سبتمبر 1981، السابقة على اغتياله بشهر واحد.
وأكثر ما يهمنا في تجربة حسني مبارك مع ما يسمى بالإصلاح السياسي، هو تعديل الدستور عام 2005 لإلغاء نظام الاستفتاء على انتخاب رئيس الجمهورية، واستبداله بالانتخاب من بين عدة مرشحين. وجاء ذلك للتحايل على الرفض الشعبي لتوريث الحكم، وللتحايل أيضًا على المعارضة الكامنة في أغوار الدولة العميقة للمشروع، وكذلك كمناورة تلتف على الضغوط الأمريكية العلنية من أجل الإصلاح. وكما نعرف فقد جاءت ثورة يناير لتكنس كل هذا الهراء.
الدلالة المكثفة لهذه النقطة، في ما يتعلق بنوبة الصحيان التي سرت في الحياة السياسية المصرية مؤخرًا، هي أن ذلك «الكتالوج» البائس لتراث السلطوية المصرية، والذي يُستدعى عند الأزمات الكبرى، يجب ألا يكون هو الكتالوج المعمول به هذه المرة أيضًا. ليس فقط لأنه لم ينجح -في الماضي- إلا في شراء الوقت، ولكن أيضًا بسبب متغيرات جذرية ترتبت على تجربة يناير 2011 في علاقة المجتمع والسلطة. وكذلك بسبب انتشار التفاعلات الشبكية اجتماعيًا واقتصاديًا، بالإضافة إلى التردي الواضح للأحوال المعيشية، والقلق من نتائج الجدل بين المعارضين والمؤيدين حول دور الجيش.
ثم أن المتغيرات الإقليمية والدولية لم تعد هي الأخرى تشكل رصيدًا لا ينفد لصالح النظام المصري، إذ أن أهم حلفائه في الإقليم أصبحوا هم أنفسهم في مهب الريح، في السعودية والإمارات وإسرائيل. ولا خلاف على أن درس الثورة السودانية ضد البشير ونظامه، وصمود الجماهير الجزائرية في مواجهة تحايلات سلطويتها أحيت ذكريات وآمالًا لدى المصريين.
وتستحق الأزمة المستحكمة مع إثيوبيا حول مياه النيل الكثير من الشرح والاستقصاء، ولكن نكتفي هنا بالإشارة إلى ما تسببه من قلق حاد لعموم المصريين، دون تطرق إلى الآثار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الخطيرة لكارثة نقص المياه.
أما التعويل على تأييد الرئيس الأمريكى دونالد ترامب المفتوح، فيجب أن يكون له حدود. ليس فقط بسبب جدية احتمالات عزله هذه المرة، ولكن أيضًا لأنه وضع الجميع فى الشرق الأوسط والخليج في حالة من عدم اليقين من مدى التزامه بتعهداته ، كما ظهر في الأزمات الساخنة المتلاحقة بين دول الخليج وإيران.
إذن، فإن ما نجح في شراء الوقت في الماضي، لن ينجح في الحاضر أو المستقبل في تجنب إعادة بناء المجال السياسي. بداية بالتخفيف من الإدارة البوليسية للعملية السياسية، وتصفية حالات الحبس الاحتياطي، وإلغاء القوانين المشرعة لهذا الإجراء كقانون التظاهر، وتحرير العملية الانتخابية من الكوابح القانونية والإدارية والبوليسية، وتطبيع النظرة للمعارضة السلمية بوصفها جزءًا من النظام السياسي للبلاد، ورفع الوصاية على حرية التعبير، وإطلاق حق التنظيم الأهلي والنقابي، وإقرار المساواة الكاملة في حقوق المواطنة، ومساءلة السلطة والالتزام بالتنمية المتوازنة اقتصاديًا واجتماعيًا وجغرافيًا، والتوافق على نبذ العنف والإرهاب والأحزاب الدينية.
نعرف أنه سيكون من قبيل الأوهام توقع إقرار هذه الإصلاحات دفعة واحدة أو على دفعات متقاربة ،بفرض توافر النية والعزيمة، ولكن لا يزال من الممكن التوافق على خريطة طريق، أو أجندة وطنية على عدة مراحل تستغرق ما بقى من الفترات الرئاسية للسيسي، مع البدء بالأكثر إلحاحًا، وهو تصفية حالات الحبس الاحتياطي، وتعديل قانون التظاهر، وإثبات حسن النية في الانتخابات المحلية وانتخابات مجلس الشيوخ، ليس بمقعد أو مقعدين هنا أو هناك لهذا الحزب أو ذاك، وليس بتصنيع معارضة حزبية شكلية.
إذا تغير الكتالوج على نحو ما نقترح ونتمنى، فسيمكن التحكم في ما بعد نوبة الصحيان على الناحيتين: المجتمع والنظام، أما إذا لم يتغير الكتالوج فيصعب التنبؤ بالتطورات.
أ.عبد العظيم حماد
عضو مجلس الأمناء بالحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي
الرابط الأصلي للمقال:
https://madamirror19.appspot.com/madamasr.com/ar/2019/10/02/opinion/u/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D9%8A%D9%85-%D9%88%D9%86%D9%88%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%A7/?fbclid=IwAR2Xv9DIN7aqymXt1gdlexsVK4E6Z0VpLtUsHZva_6RxrY2MBr10nomjlOk
كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي
تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.