10-09-2025
سقطت حكومة فرانسوا بايرو بعد تسعة أشهر فقط ، حكومة الأقلية التي فرضها ماكرون بعد سحب الثقة من حكومة بارنيه التي لم تستمر سوا ثلاثة أشهر ، أتى هذا السقوط بعد محاولة تمرير سياسات تقشفية جدًا منها إلغاء عطلات رسمية ، وتجميد للمعاشات وتقليص حاد للإنفاق العام في محاولة يائسة لسد العجز المالي التي تواجهه فرنسا . في نهاية اغسطس الماضي أعرب وزير المالية الفرنسي إيريك لومبارد لإذاعة فرانس انتر عن قلقه بصراحة من أنه في حال انهيار حكومة فرانسوا بايرو ، فإن التدخل من صندوق النقد الدولي ( IMF ) خطر قائم يجب تجنّبه . ولكي نتخيل حجم الأزمة التي تواجهها فرنسا ، سنستحضر بعض الأرقام ،
كالدين العام الخاص بها الذي وصل إلى ما يقدر ب 113.9 % من الناتج المحلي الإجمالي مما يجعلها من الأعلى في أوروبا بعد اليونان وإيطاليا ، إلى جانب أنه من المتوقع أن تتراوح تكلفة خدمة الدين بين 59 مليار يورو في عام 2024 إلى أكثر من 100 مليار يورو في عام 2029 لتصبح أكبر بند في الميزانية إذا استمر التباطؤ في النمو .
وحّدت إجراءات بايرو غير الشعبية اليمين المتطرف واليسار على حد سواء ، لتتشكل أغلبية ساحقة لسحب الثقة ، وهو ما وجّه ضربة قاسية لماكرون الذي يجد نفسه الآن بلا حليف داخل القصر ، وبلا أغلبية مستقرة في الجمعية الوطنية .
ويأتي تصريح النائبة ماتيلدا بانوت ، زعيمة كتلة فرنسا الأبيّة في البرلمان ، تأكيداً على هذا حيث صرحت للإعلام الفرنسي بأن ماكرون أمامه خياران إما أن يستقيل أو يتم عزله ، هذا التصريح يلخّص المأزق الرئاسي ، والذي ينذر بأن ماكرون لم يعد بإمكانه تشكيل حكومة مستقرة ضمن البرلمان الحالي ، ولا تمرير سياسات تقشفية دون أن تشتعل الشوارع ، لتتحوّل الأزمة من أزمة حكومة إلى أزمة شرعية نظام .
تزامن هذا الإنهيار مع دعوات من النقابات لإضراب عام لشلّ البلد احتجاجاً على السياسات الساحقة لشرائح كبيرة بالمجتمع ، مما جعل بعض قادة المعارضة أن يدعو لإنتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة ، ورأى البعض ك جان لوك ميلانشون زعيم اليسار بفرنسا أن الجمهورية الخامسة التي تأسست في ١٩٥٨ في طريقها إلى الإنتهاء ، الجمهورية التي أعطت السلطة التنفيذية قوة على حساب البرلمان والشعب ، وأنه يجب التحرك نحو الجمهورية السادسة كمشروع بديل يعيد صياغة النظام السياسي الفرنسي من خلال دستور يقلص من صلاحيات الرئاسة و يعطي أدوات ديمقراطية بشكل أوسع مثل الاستفتاءات الشعبية المباشرة و يضمن بشكل أكبر مباديء العدالة الاجتماعية لإعادة التوازن الحقيقي في المجتمع .
كل هذا يحدث في ظل مخاوف من حدوث فراغ سياسي قد يئول إلى وصول اليمين المتطرف للسلطة إذا حدثت انتخابات مبكرة ، في مشهد ينذر بإعادة رسم الخريطة السياسية لفرنسا .
الأزمة فرنسية ليست معزولة عن محيطها الأوروبي بل جزء من تصدع حقيقي في البنية الإقتصادية للرأسمالية الأوروبية . الحكومات الأوروبية ، المحكومة بقيود معاهدات الاستقرار المالي وسياسات البنك المركزي الأوروبي تجد نفسها أمام شارع غاضب يرى أنها تنحاز لقلة غنية وتحمله تكاليف فوق قدرته . احتمالية انهيار نموذج النيوليبرالية الأوروبية وتلويح هذه الإحتمالية في الأفق يطرح اسئلة وجودية عن امكانية نجاة القارة في ظل تحولات في موازين القوى في العالم وصعود تحليلات لعالم متعدد الأقطاب ، فهل بإمكان هذا النظام الذي بُني على الثقة مع مؤسسات الإتحاد و الإستقرار السياسي و معدلات النمو المتصاعدة أن يستمر على هذا الشكل وأن ينجو ؟ ، أما أن الأزمة الفرنسية قد تكون شرارة لهذا الإنهيار و مؤشر لتغيير قادم للنظام الأوروبي الذي تم بناءه منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية ؟
محمد صابر
عضو أمانة العلاقات الخارجية بالحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي
كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي
تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.