17-06-2020
في هذا المقال استكمل الملاحظات السريعة التي دونتها بشأن مناقشات مشروعي الموازنة وخطة التنمية الإقتصادية للسنة المالية الجديدة التي تناقش في الجلسة العامة لمجلس النواب
في سياسة الأجور:
تجاهل التقرير وجود تشوهات حادة في هيكل الأجور، وإهتم فقط بإبراز قيمة الزيادة في مخصصات الأجور في الباب الأول من الميزانية، من حيث قيمتها المطلقة، حيث زادت بحوالي 34 مليار جنيه بنسبة 11.2%. وفشل واضعوا التقرير في ادراك أهمية حقيقتين؛ الأولى هي أن حسابات التغير يجب أن تعتمد على المقارنة بالقيمة الثابتة وليس بالقيمة الجارية للمخصصات، لأن الزيادة في الأجور ترتبط بعلاقة مباشرة مع تكاليف المعيشة. واذا استخدمنا قيمة (المكمش) الإقتصادي المستخدم في معهد التخطيط القومي ووزارة التخطيط، والمقدر هذا العام حسب السيناريو الأساسي للنمو بنسبة 9% من القيمة الجارية، فإن الزيادة الحقيقية في مخصصات الأجور ستكون 2.2% فقط بعد كل بنود الزيادات التي ورت في مشروع الموازنة، في بنود الأجور والعلاوات والبدلات والمكافآت.
ومن باب المقارنة فقط، فإن الحكومة خصصت 20 مليار جنيه لدعم أسهم الشركات في البورصة، وقدمت تعويضات لأقل من 1200 مصدر بقيمة 2.5 مليار جنيه، بحد أدنى 5 ملايين جنيه لكل مصدر، وزادت دعم المصدرين في ميزانية السنة الجديدة بنسبة 16.7% من 6 مليارات إلى 7 مليارات جنيه، أي أن المصدرين حصلوا على زيادة حقيقية في الدعم بعد استخدام المكمش بنسبة 7.7% .
وعلي الرغم من أن جدول توزيع الأجور في الباب الأول يظهر خللا تاريخيا صارخا في التوزيع بين الأجور والمكافآت، فقد فشلت الحكومات المختلفة في معالجته خلال العقود الأخيرة، كما أن تقرير مجلس النواب لم يلتفت إليه، بل أغمض عينيه تماما عنه.
ويظهر التحليل المحاسبي الذي قدمه التقرير على سبيل المثال، أن مخصصات الأجور للوظائف الدائمة تعادل ما يقرب من ثلث المخصصات الكلية للأجور والمكافآت والمزايا النقدية والعينية (34.3%)، في حين أن بند المكافآت يستحوذ وحده على حوالي 42%. وبينما زادت الأجور للوظائف الدائمة بنسبة 3% بالأسعار الجارية، فإن الزيادة في قيمة المكافآت بلغت 19.3% أي أكثر من 6 أمثال الزيادة في أجور الموظفين الدائمين.
هذه المؤشرات وغيرها لم تفتح أعين واضعي التقرير على حقيقة العوار في هيكل الأجور، وضرورة إصلاحه بتغليب نسبة الأجور في الوظائف الدائمة لتصبح في حدود 70% إلي 80% من القيمة الكلية للاجور، بما يخلق حالة من العدالة والاستقرار بين العاملين.
الأغرب من ذلك أن باب الأجور يحتوي على مبلغ ضخم من الإحتياطي العام للطوارئ، يتم انفاقه بواسطة المديرين والرؤساء وبمعرفة الوزير المختص للإغداق على المقربين والمحاسيب! وقد ورد في تقرير مجلس النواب ان قيمة احتياطات الطوارئ الكلية في مشروع الموازنة تبلغ 57 مليار جنيه، 44% منها ضمن مخصصات الباب الأول في الموازنة.
وإذا حاولنا إقامة علاقة بين الأجور والضرائب، فسنجد أن العاملين بأجر يدفعون وحدهم أكثر من 80 مليار جنيه في صورة ضرائب لخزانة الدولة، بما يعادل 8.3% من الإيرادات الضريبية، وهو مبلغ يعادل تقريبا ضعف قيمة الضرائب التي تحصلها الدولة على النشاط التجاري والصناعي (42.7 مليار جنيه، بنسبة 4.4% من إجمالي الإيرادات الضريبية).
كذلك فشل التقرير في رصد حقيقة تراجع نسبة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي إلى 4.9% في الموازنة الجديدة ، مقارنة ب 5.1% في الموازنة السابقة، و 8.4% في موازنة العام 2013/2014. بالمقارنة بين مصر ودول أخرى تبلغ حصة الأجور من الناتج 9% في فيتنام و 6.5% في كوريا الجنوبية. ومن نافلة القول هنا إعادة التذكير بأن تخفيض حصة الأجور من الناتج المحلي هو أحد أهداف برنامج (الإصلاح الإقتصادي) والهدف الرئيسي لقانون الخدمة المدنية.
تضييق هنا.. وإغداق هناك
المنطق المحاسبي في غيبة رؤية اقتصادية واجتماعية، هو منطق عقيم يفسر الماء بالماء ولا يقدم جديدا. ولذلك فإن تقرير مجلس النواب لم يناقش التناقض في السياسة المالية للحكومة التي تكيل بمكيالين، تفرض إجراءات التقشف والتضييق على الأغلبية، وتبسط يديها بالمنح وسياسات الإغداق على القادرين الذين لا يشاركون في تحمل الأعباء، وإنما دورهم في التقسيم الإجتماعي هو أنهم يحصلون على الثمار، بدون تعب. المثال الصارخ على ذلك هو مجموعة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة منذ شهر مارس الماضي، بالاغداق على مجموعات ضيقة من رجال الأعمال، والتضييق على قطاعات واسعة من المواطنين.
وقد حصل رجال الأعمال المتعثرون على مكافأة لتعثرهم بإسقاط نصف الديون المستحقة عليهم، وإعفائهم من الفوائد المصرفية. وحصلت الشركات المتعثرة في البورصة على 20 مليار جنيه لرفع أسعار اسهمها، وزيادة ارباحها. وحصل المقاولون على المتأخرات المستحقة لهم فورا، وخصصت الحكومة 100 مليار جنيه رجال لدعم الصناعة والمشاريع المتعثرة، ذهبت النسبة الأعظم منها الي كبار رجال الأعمال القريبين من الحكومة.
ومع أن الحكومة اقترضت من سوق السندات، ومن صندوق النقد، ومن بعض مؤسسات التمويل الأخرى، ومن المصارف المحلية، إلا أن عبء تمويل هذا الإغداق وقع على كاهل الأغلبية العظمي من المواطنين، وعلى الطبقة الوسطى التي تصبح أفقر وأفقر يوما بعد يوم.
وقد ترافقت حفلة الإغداق التي نعم بها كبار رجال الأعمال والمصدرين وشركات البورصة ، مع حملة جبابة وتضييق شنتها الحكومة على جيوب الناس، اتسع نطاقها من فرض رسوم للحصول على صور من محررات رسمية من جهات حكومية، وزيادة الدمغة النوعية، إلى فرض ضرائب على حفلات الخطوبة والزفاف بنسبة 12% مع إلزام المنظمين بتقديم اقرارات شهرية لوزارة المالية، وتوريد المبالغ المستحقة شهرا بشهر. وفي حال التأخير يتعرض هؤلاء لغرامة لا تقل عن 5 آلاف جنيه، ودفع مقابل تأخير بنسبة 12% شهريا. حملة الجباية والتضييق إمتدت تقريبا إلى كل المعاملات من التبغ والدخان ومنتجاته، إلى فواتير الإنترنت وقطع غيار وأجهزة الموبايل، إلى رسوم تنمية موارد الدولة التي زادات بمعدلات كبيرة، إلى الرسوم على تذاكر السفر للخارج الصادرة بالعملة المحلية في مصر ورسوم المغادرة وغيرها.
وبناء على هذه الإجراءات الجبائية فإن حصيلة رسوم تنمية موارد الدولة في الموازنة الجديدة، زادات بأكثر من أربعة أضعاف ما كانت عليه في موازنة 2019/2020 لتصل إلى 23.8 مليار جنيه مقارنة ب 5.6 مليار جنيه فقط في الموازنة التي تنتهي بنهاية الشهر الحالي.
الحقيقة أن التقرير أهمل تفاصيل الجباية، ولم يهتم بها، لكنه أشاد ببرنامج الإصلاح الإقتصادي الذي تتباهي به الحكومة.
الجزء الخاص بمناقشة موازنات الهيئات الإقتصادية يحتاج إلى الكثير من التدقيق، وبهذه المناسبة فإني أقترح تغيير اسم (الهيئة القومية للإنتاج الحربي) إلى (الهيئة القومية للإنتاج العسكري) مع تحديد الغرض منها تماما، وتوجيهها إلى مجالات الصناعات العسكرية المتقدمة القائمة على تكنولوجيا المعلومات وعلوم الذكاء الإصطناعي والأنظمة العسكرية الحديثة.
هذه مجرد نماذج قليلة تبين خطورة النتائج المترتبة على قراءة الموازنة العامة للدولة وخطة التنمية بعقلية محاسبية، يغيب عنها ادراك الحقائق الإقتصادية والإجتماعية.
تقرير لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب الذي تبدأ مناقشته اليوم، قبل بدء السنة المالية الجديدة بأسبوعين فقط، لم يناقش أسباب انخفاض معدل الإستثمار من 18.2% إلى 10.8%، ولم يتقدم بسؤال عن كيفية رفع المعدل، على اعتبار أن زيادة الاستثمار تعني زيادة الإنتاج، وزيادة فرص العمل، وزيادة احتمالات التصدير. السبب هو أن واضعي التقرير ليسوا معنيين بأشياء من هذا القبيل، وهم يهتمون فقط بمراقبة القيود المحاسبية، وضمان تحقيق التوازن المحاسبي.
التقرير لم يسأل لماذا ينخفض الادخار المحلي إلى 5.5 % فقط من الناتج المحلي الاجمالي، بينما هو في دول نامية متوسطة الدخل يزيد عن 30%. التقرير لم يطلب إعادة تدقيق معدل النمو المتوقع للعام القادم على ضوء التطورات الإقتصادية الفعلية. التقرير لم يتضمن سؤالا واحدا إلى وزير المالية عن أسباب تعثر برنامج الطروحات العامة الذي تحدث عنه والذي يستهدف في الموازنة الجديدة جمع 5 مليارات جنيه. التقرير لم يهتم أبدا بإثارة موضوع انتشار الفقر بين مايقرب من ثلث السكان حسب الإحصاءات الرسمية، (أوما يصل إلى حوالي النصف حسب تقديرات مستقلة). التقرير لم يهتم بمسألة العلاقة بين الأمية والتخلف، وضرورة إنهاء ظاهرة الأمية، التي ما تزال تسيطر على ما يقرب من ربع عدد السكان في سن الدراسة وما بعده. التقرير اهتم بطلب مخصصات لزيادة مكافآت أساتذة الجامعات، وبعض الوزارات، مثل وزارة الصحة التي تحتاج بحق إلى كل مساندة في الظروف الحالية. لكن التقرير أيضا طالب بزيادة المخصصات المالية لمجلس النواب بقيمة 500 مليون جنيه عملا بقول رب كريم "ولا تنس نصيبك من الدنيا"!
د.ابراهيم نوار
باحث متخصص في العلاقات الاقتصادية والنزاعات الدولية
كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي
تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.