02-05-2020
ملاحظات أولية
1- حساب عبء الدين العام
الدين العام هو عبارة عن حقوق مستحقة للغير على الدولة إلى أفراد او مؤسسات في الداخل والخارج، بسبب حصول الحكومة على موارد إضافية لتمويل الإنفاق العام لأجهزتها، وكذلك الموارد التي تضمنها الحكومة لتمويل أجهزة أخرى. وتشمل تلك الحقوق نوعين من الإلتزامات، الأول هو الإلتزام بسداد اصل الدين كما هو، لكن على فترة زمنية قد تمتد من عدة أشهر إلى عدة سنوات او حتى الي عدد من العقود في حال السندات او القروض الطويلة الأجل جدا.
وتنص اتفاقية التمويل او شروط الدين على كيفية السداد، ونسبة السداد من الأصل حسب الفترة الزمنية المتفق عليها؛ فإذا اقترضت الحكومة مثلا 100 مليون جنيه من الداخل او 100 مليون دولار من الخارج، فإنها تلتزم بسداد هذا المبلغ، الذي هو اصل الدين، على خمس سنوات مثلا بواقع 20% من القيمة الأصلية كل سنة.
أما الحق الثاني لصاحب الدين، أو الإلتزام الثاني على المدين، فإنه يتمثل في دفع "ثمن التمويل" وهو النسبة او المبلغ الذي يقبل به الدائن لإقراض المدين، وهو ما نطلق عليه سعر الفائدة او العائد الذي يحصل عليه الممول من المتمول. ويسري هذا الإلتزام على المدين حتى يتم إهلاك الدين بأكمله.
وتوضح اتفاقية التمويل ثمن حصول المقترض على التمويل، وهذا قد يكون في صورة واحدة او اكثر. الصورة الشائعة هي سعر الفائدة، والصيغة الشائعة هي حساب قيمة الفائدة طوال فترة الدين وسدادها على سنوات بقيمة متساوية.
لكن ثمن الحصول على التمويل قد يكون أكثر من مجرد دفع الفائدة والرسوم الإدارية التعاقد على التمويل؛ فنحن نعرف على سبيل المثال ان المؤسسات الدولية الكبرى تستخدم التمويل بوصفه أداة من أدوات تغيير السياسة الإقتصادية للمقترض، وهذا شائع مثلا في قروض البنك الدولي او صندوق النقد، إذ ان ثمن الحصول على التمويل لا يقتصر على سعر الفائدة والرسوم الإدارية وغيرها من الإلتزامات المالية على المقترض، وإنما يشمل أيضا التزام المقترض بتغيير سياساته في مجال او اكثر.
ومن ثم فإن الدين العام يتكون من التزامات مالية (وربما عينية أيضا كما هو الحال في التمويل الإسلامي) و سياسية، في مقابل حصول المدين على موارد إضافية، سيتعين سدادها مع ثمنها خلال فترة زمنية معلومة للطرفين، الدائن والمدين، وبكيفية معلومة للطرفين أيضا.
وطبقا لما تعلمناه من مبادئ إدارة الدين العام فإن عبء الدين العام يتضمن كافة الإلتزامات المترتبة عليه. لكن بما اننا قد لا نعرف الا الالتزامات المالية فقط، فإن عبء الدين العام، كما علمنا استاذنا المرحوم الدكتور فؤاد هاشم عوض في السنة الثانية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ينقسم إلى شقين، الأول هو سداد الأصل ، والثاني هو سداد الفائدة. لكن المحاسبين الحُدُث، والإقتصاديين المعنيين بالقيود المحاسبية فقط، وبتستيف الأرقام والأوراق، يحاولون استبعاد الالتزام باستحقاق سداد اصل الديون من الأعباء المالية التي تتحملها الموازنة السنوية للدولة، والإكتفاء بمدفوعات الفائدة فقط.
وأظن ان هذه النظرة المحاسبية، حتى وإن شجع على العمل بها صندوق النقد الدولي تتسبب في تشويه هيكل الالتزامات المستحقة على الإقتصاد بسبب المديونية، كما تتسبب في تضخيم قيمة الموارد المحلية بالقيمة الأصلية للقروض، إذا جرى إسقاط أثر سدادها خصما من الناتج المحلي الإجمالي.
الحقيقة التي يجب أن تكون واضحة بدون تشويه هي أن أعباء سداد الدين تتضمن أربعة مكونات على الاقل هي: سداد اصل الدين، والثمن النقدي للحصول على الدين، والرسوم الإدارية وعلاوات الإصدار وغيرها التي ترتبط بإتاحة الدين للمقترض، ثم الثمن غير المالي والإداري المرتبط بتغيير السياسات، وهو في العادة يرتبط بالمانحين الدوليين والمؤسسات المتعددة الأطراف. أما في حال الدين المحلي فإن أعباء الدين تقتصر على المكونات الثلاث الأولى فقط.
- وطبقا لتقديرات الحكومة فإن مخصصات سداد القروض في السنة المالية الجديدة تبلغ 555.5 مليار جنيه مقابل تقدير بقيمة 375.5 مليار جنيه في السنة المالية الحالية، اي بزيادة 180 مليار جنيه، بنسبة 48% تقريبا اكثر من مخصصات العام الحالي. أما بالنسبة للفوائد المستحقة على الدين العام ، فإنها ستنخفض هامشيا إلى 566 مليار جنيه مقارنة بقيمة تقديرية للسنة المالية الحالية تبلغ 569 مليار جنيه، بنسبة انخفاض تعادل 0.5% تقريبا.
- وبذلك فإن خدمة الدين العام تبتلع في السنة المالية الجديدة 1121.5 مليار جنيه تعادل 16.4% من الناتج المحلي الإجمالي اي ما يزيد عن إجمالي الإيرادات الضريبية المقدرة بنسبة 14.1% من الناتج المحلي الإجمالي، أو نحو أربعة أمثال الإستثمارات الواردة في مشروع الموازنة.
2- مزايا تخفيض الدين العام
اهم واكبر مزايا تخفيض الدين العام انه يسمح بتحرير قدر أكبر من موارد الإقتصاد القومي للإنفاق على الاستثمار والتنمية، بدلا من تحويل هذه الموارد إلى الممولين. وكلما انخفض الدين العام، انخفضت المدفوعات المستحقة على الدين كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يقلل الضغط المالي، ويسمح بانتهاج سياسة مالية توسعية بدون تكلفة يتحملها الإقتصاد القومي لصالح الغير.
- ومن ثم فإن قياس مزايا تخفيض نسبة الدين العام من الناتج المحلي الإجمالي تتجلى في مؤشرات من اهمها، تخفيض الحاجة إلى الإستدانة الجديدة ، وزيادة القدرة على الاستثمار، بتوجيه الموارد التي تم توفيرها كلها او الجزء الأكبر منها الي الاستثمار، خصوصا وأن المبررات في الإقتراض السابق كانت تشمل توسيع طاقة الإنتاج وقدرته على التشغيل.
- وتقدر الحكومة أن نسبة الدين العام من الناتج المحلي الإجمالي ستنخفض في السنة المالية الجديدة إلى 82.8% مقابل 89.2% في السنة المالية الحالية. هذا يعني من الناحية الإقتصادية تحرير موارد محلية تصل إلى 6.4% من الناتج المحلي الإجمالي، ومن ثم إتاحة هذه الموارد المحررة لتمويل التوسع الإقتصادي والتنمية البشرية.
- لكن حساب عبء خدمة الديون (الأقساط + الفوائد) لا يؤدي إلى النتيجة السابقة؛ فطبقا لأرقام وزارة المالية سيزيد عبء خدمة الدين العام في السنة المالية المقبلة إلى 16.4% من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بنسبة 15.3% في السنة المالية الحالية. هذا يعني من الناحية الإقتصادية ان عبء خدمة الدين العام زاد ولم ينخفض ، وأن ما يقوله وزير المالية لا يعبر عن الحقيقة. العبرة بانخفاض نسبة الدين العام من الناتج هي انخفاض العبء الذي يتحمله الناتج بسبب الدين وليس العكس. ولذلك فإن وزارة المالية مدينة للمواطن بتفسير لهذه المفارقة.
- وربما يكون من المفيد ان نشير إلى عجز الخزانة العامة للدولة عن الإسهام بنسبة أكبر في تمويل الاستثمارات العامة خلال السنوات الأخيرة. ويعود هذا العجز إلى زيادة المديونية من ناحية، وإلى الشروط غير المالية المرتبطة بالديون من ناحية ثانية. ومن المعروف ان مصر تعاني تاريخيا من انخفاض حصة الاستثمار من الناتج المحلي الإجمالي. هذا الانخفاض تضغط عليه باستمرار قيود السياسة الانكماشية والتقشفية التي تتبعها الخزانة العامة.
- تبلغ قيمة الاستثمارات الممولة بواسطة الخزانة العامة في الموازنة الجديدة 177 مليار جنيه بنسبة تقترب من 2.6% من الناتج المحلي الإجمالي مقابل حوالي 2.3% في السنة المالية الحالية، وهي في الحالتين نسبة هزيلة، بينما تمتص خدمة الدين العام في السنة المالية الحالية 15.3% سترتفع في السنة المالية الجديدة إلى 16.4% الناتج المحلي الإجمالي.
- تشير المراجعة الأولية لأرقام الموازنة على ضوء التطورات السلبية في الإقتصاد العالمي، وانعكاساتها على مصر إلى أن وزارة المالية بصدد وضع سيناريو جديد لحجم الدين العام في السنة المالية الجديدة. ويقدر وزير المالية في بيان جديد انه بافتراض استمرار أزمة كورونا وامتدادها خلال النصف الأول من عام 2020، فإن ذلك سيؤدي إلى تخفيض قيمة الإيرادات المرتبطة بالنشاط الإقتصادي بنسبة تبلغ حوالي 25% للسنة المالية بأكملها، مقارنة بالتقديرات الواردة في البيان المرسل لمجلس النواب، وهذا سيؤدي إلى زيادة العجز الكلى إلى 7.7% من الناتج المحلي بدلا من 6.3%.
- وعلى هذا الأساس فإن السيناريو الجديد للمالية يتجه إلى تقدير الدين العام بنحو 84.5% من الناتج في يونيو 2021 بدلا من 82.8%.
- وما يزال يتعين على وزارة المالية إعادة تقدير عدد من المتغيرات الرئيسية المؤثرة في التدفقات النقدية للخزانة العامة، منها على سبيل المثال حساب الوفر في أسعار البترول، والوفر الناتج عن تخفيض أسعار الفائدة على الدين المحلي بنسبة 3% اعتبارا من مارس الماضي، وتحسن سعر الصرف للجنيه المصري، إضافة إلى تقدير الآثار السلبية المتوقعة من انخفاض إيرادات السياحة وقناة السويس وغيرهما.
3- فائدة ومخاطر إطالة عمر الدين العام
من الإنجازات التي يفاخر بها السيد وزير المالية أنه وضع استراتيجية يعمل بمقتضاها على إطالة عمر الدين العام. كأنما تفخر الحكومة بأنها بدلا من أن تحصر الدين في حدود ثلاث أو أربع سنوات فإنها تطيله إلى 30 عاما! كأنما هي تسعى لأن تتذكرها الأجيال القادمة باللعنة. ويتضمن بيان الموازنة ان الحكومة تستهدف تخفيض متوسط عمر الدين من 3.8 سنة إلى 4.4 سنة. وتسعى وزارة المالية لتحقيق ذلك عن طريقة زيادة نسبة السندات الطويلة الأجل في سلة أدوات التمويل العام على حساب أذون الخزانة التي يبلغ عمرها عاما واحدا فأقل.
- لكننا في حقيقة الأمر نرى أن هذه النظرة المحاسبية التي تهدف إلى تخفيض قيمة القيود في الدفاتر، بتوزيعها على عدد أطول من السنين، تفقد اي حكمة، اذا نتج عن ذلك زيادة في تكلفة الديون. وقد ينطوي إطالة عمر الدين علي النتائج التالية او البعض منها:
- عندما نطيل عمر الدين العام فإننا تعلقه في رقبة أجيال لم تتخذ القرار بشأنه ، ولم تحصل عليه، لكنها ستشارك في دفع ثمنه.
- عندما نطيل عمر الدين فإننا نقتطع من موارد الإقتصاد في السنوات اللاحقة جزءا من الموارد التي كانت يمكن أن تذهب لإعادة الاستثمار، وليس للتحويل إلى الدائن
- إذا اطلنا عمر الدين لقرض تم استخدامه في تمويل الإنفاق العام الاستهلاكي او مشاريع قصيرة الأجل، فإننا نسهم في تشويه هيكل الإقتصاد وتقديم صورة مضللة عن جدوى التمويل، لأن البنود الممولة لن تتحمل ثمن التمويل كله. ومن ثم فإن إطالة عمر التمويل، من شأنه أن ييسر استخدام قروض طويلة الأجل لتمويل مشروعات قصيرة الأجل او تمويل العجز المالي الجاري للحكومة العامة.
- وسوف أضرب هنا مثلا لتوضيح المخاطر التي قد تنتج عن السعي لإطالة عمر الدين بدون التدقيق جيدا في جدوى ذلك من الناحية الإقتصادية وليس بفلسفة القيود المحاسبية.
- في فبراير من العام الماضي طرحت وزارة المالية فى السوق العالمية أوراقا مالية بقيمة 4 مليارات دولار، عبارة عن ثلاث فئات من السندات الدولارية، الأولى لأجل 5 سنوات بقيمة 750 مليون دولار بعائد 6.2%، والثانية لأجل 10 سنوات بقيمة 1750 مليون دولار بعائد 7.6%، والثالثة لأجل 30 سنة بقيمة 1500 مليون دولار بعائد 8.7%.
ومن البديهي ان اقبال المصارف الدولية على شراء السندات لأجل 30 عاما كان قويا جدا؛ ولماذا لا اذا كانت البنوك ستشتري أوراقا بقيمة 1500 مليون دولار وتستردها على مدار فترة الاستحقاق بقيمة 5415 مليون دولار!
د.ابراهيم نوار
باحث متخصص في العلاقات الاقتصادية والنزاعات الدولية
كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي
تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.