21-08-2021
يتذكر كل من عاش في الريف مثلي في خمسينيات القرن الماضي، وقبل أن تظهر أو تعم نتائج التحولات الاجتماعية والتنموية الإيجابية للاندفاعة الأولى الحماسية والجادة لنظام يوليو 1952 (مع تحفظي على جوانب أخرى في هذه المرحلة، وإدانتي المتكررة للكوارث الكثيرة التالية والمستمرة لهذا النظام) يتذكر هؤلاء بعض القصص والأمثال الشعبية حول علاقة الفقراء برغيف العيش؛ خاصة رغيف القمح (وكانوا هم الأغلبية )؛ وهي في مجملها تلخيص لثقافة الفقر والجوع والرضا، بل السعادة بالقليل، وبالتالي فكانت مؤثرا قويا في أنماط التربية وسائر العلاقات الأسرية والاجتماعية ككل.
مبدئيا كان العيش هو النعمة، فيما كان اللبن هو الخير. ومؤكد أننا نتذكر القسم المغلظ بالنعمة الذي يجب ألا يشَك في صدقه أحد بوضع الرغيف علي العين، كما نتذكر طقس تقبيل اليد على اللقمة التي يعثر عليها الشخص ساقطة سهوا، أو ملقاة قصدا؛ للكلاب مثلا؛ في الطريق ثم وضعها بجانب أقرب حائط كي لا تُداس بالأقدام مع الاستغفار المتكرر.
ولندرة رغيف القمح في يد الفقراء، كان يُضرب بالتطلع إليه المثل على الطمع المستهجن؛ فيقال: "شحات وعاوز عيش قمح"!
أما اعتبار الرغيف عموما هو الرفاهية والأمن؛ فخذ عندك: "إن لقينا العيش يبقى المش شبرقة"، و "اللي عنده العيش ويبله، عنده الهنا كله"، و "والعيش مخبوز، والمية في الكوز، وإللي يعوز غير كدة يعوز".
كان رغيف القمح بالذات يكاد يكون مقدسا بالمعني الديني حرفيا، مثل اللبن؛ فمثلا كان يُكرَه تضمين وجبة الفلاح في الحقل أرغفة القمح؛ حتى ولو كان صاحب الحقل نفسه هو من سيأكل. وقد أدركت في طفولتي رجلا مسنا محني الظهر، كانت أشهر ما في سيرته البائسة أنه كاد يطلق زوجته لأنها ذهبت إليه في الحقل برغيف قمح مع المش والبصل، ولم يكن هذا البذخ من جانبها إلا صدفة محضة؛ لأن ذلك حدث في ثاني أيام أحد الأعياد، وكانت قد خبزت عيش قمح من أجل العيد كما كانت تقضي طقوس الحياة في الريف، ففكرت أن تُكرم زوجها الشقيان في الغيط برغيف ناعم سهل المضغ والابتلاع بدلا من أرغفة الذرة الخشنة الصلبة، ولكن الرجل، خوفا من زوال النعمة بسبب هذا البطر، ثار عليها ويقال أنه كاد يضربها وفكر في تطليقها كفارة للمعصية التي ارتكبتها.
من أجل ذلك كان أبناء الموسرين في القرية؛ خاصة أبناء الموظفين؛ وطبعا كانوا الأقلية، يُعيِّرون زملاءهم أبناء الفلاحين الفقراء عند الشجار في المدارس أو في ساحات اللعب بأنهم لا يأكلون عيش قمح إلا في الأعياد.
ولأن الفقي؛ أي قارئ القرآن على المقابر أو في المنازل؛ وكذلك خُدّام المساجد ومقيمي الشعائر والحلاقين لم يكونوا مزارعين؛ ولو بالاستئجار؛ فقد كانوا يعيشون على ما يعطيه لهم المزارعون من خبز أو حبوب من العام للعام كأجور، وبالتالي فقد كان الرغيف لديهم أغلي كثيرا من بقية أهل القرية كنسبة وتناسب. فكان يُضرَب بهم المثل في البخل وفي شدة الحرص على حفظ الرغيف من القوارض وغيرها. وكلهم كان "الفقي" هو مثالهم، فكان يقال: "عيش الفقي في الأنجم ما يطولوش الفار حتى لو عمي"، وذلك لأنه كان يحفظ الخبز ملفوفا في سلة من الخوص معلقة في حبل يتدلي من وسط سقف الغرفة.
هذه العلاقة بين الفلاح المصري خصوصا، والفقير المصري عموما، وبين رغيف القمح هي تلخيص للمفارقة التاريخية المأساوية في حياة هذ الشعب. إذ بصفة عامة لم يكن القمح؛ وهو محصول شتوي لا يحتاج كثيرا من المياه، أو من خدمة الأرض، ولا يتعرض لأية كوارث طبيعية؛ مثل المحاصيل الصيفية كالذرة والقطن والفواكه. ولذا فقد كان إنتاجه حتى خمسينيات أو أربعينيات القرن الماضي دائما يكفي لإطعام الفلاح المنتج وبقية الشعب.
لكن الحاصل كان غير ذلك منذ الدولة الرومانية، فكان القمح يُنتج في مصر لإطعام شعوب أخرى، ولإشباع بطون وترف الطبقات الحاكمة وجيوش الحكام من الرومان إلى العرب، إلى المماليك، إلى محمد علي وخلفائه.
وكان هذا النزح يأخذ أشكالا متعددة؛ ضرائب الالتزام، أو خراج، أو سدادا لإيجار الأراضي للملاك، أو احتكار لمحمد علي باشا؛ فكان القمح هو محصول مصر الاستراتيجي قبل أن يحل القطن محله، وكان الباشا يستولي عليه كله بعد خصم نصيب صغير للمزارع بعدد أفراد أسرته للقوت لمدة عام؛ وذلك ليصدره للخارج؛ خصوصا لإنجلترا؛ لإطعام الجيوش في قواعدها وأساطيلها في البحر المتوسط؛ خصوصا في مالطا؛ ليحصل على المال اللازم لمشروعاته. وبالمناسبة فقد كانت تجارة محمد علي في القمح مع الإنجليز من أهم أوراقه لحفظ التوازن في علاقاته الدولية بين القوتين الكبيرتين المتحفزتين منذ حملة نابليون لإحتلال مصر؛ أي إنجلترا وفرنسا؛ وتلك قصة طويلة ومهمة، لكننا نقتصر هنا على علاقتها السببية بسوسيولجيا الفقر ورغيف القمح في تاريخ وحاضر ومستقبل مصر.
من أسباب ندرة رغيف القمح في حياة منتجه؛ الفلاح المصري؛ فيما بعد محمد علي، تخصيص مساحات متزايدة لزراعة القطن كمصدر للدخل من العملات الأجنبية، ثم إطعام الجيوش الجرارة للحلفاء على أرض مصر وحولها في حربين عالميتين استمرت أولاهما أربع سنوات، وثانيتهما قرابة ست سنوات.
وهكذا دخلت مصر خمسينيات القرن الماضي بأزمة في رغيف العيش مع زيادة مطردة الارتفاع في عدد السكان، ومع نظام جائر للملكية الزراعية وكوارث متعددة للمحاصيل الصيفية؛ إما بسبب شح مياه النيل في الصيف، وإما بسبب الآفات؛ حيث كان يغني الذرة والبطاطا نسبيا في سد الرمق، فكان هذا هو الحال الذي رسب وعمم ثقافة الفقر والجوع، ومن ثَمَّ تقديس رغيف العيش والشعور بالضياع عند ضياعه على نحو ما عرضت من شذرات من تلك الثقافة في بداية هذا البوست. وبالطبع انتقلت هذه الثقافة الغذائية المعتمدة على الخبز ومعها بقية تلك الطقوس والمعتقدات من الريف إلى المدينة التي (تأريفت) هي الأخرى؛ ليس بسبب السيول التي تتدفق عليها من نازحي القري فقط، ولكن بسبب عجز المجتمع والدولة عن استيعاب هؤلاء النازحين في سوق عمل منتج ومنظم ونام ٍمع استمرار العجز عن استيعاب أبنائهم في نظام تعليمي وتربوي كفء يتخرجون منه إلى فرص عادلة في العمل والحياة.
عبد العظيم حماد
رئيس التحرير الأسبق لصحيفة الأهرام
وعضو الهيئة العليا والمكتب السياسي للحزب
كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي
تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.