25-03-2023
يقول هنري كيسنجر، كما نقل عنه ديفيد إغناشيوس كاتب العمود ذائع الصيت، في صحيفة "واشنطن بوست" (16 مارس 2023) : إن بروز الدبلوماسية الصينية في مجال صنع السلام في الشرق الأوسط، من شأنه أن يغير قواعد اللعبة الدبلوماسية في الشرق الأوسط والعالم .
ونستنتج مما ورد في عمود إغناشيوس أن كيسنجر يبني رؤيته لدور الدبلوماسية الصينية في الشرق الأوسط على أساس أربعة افتراضات أساسية:
- الأول، أن الولايات المتحدة لم تعد تلك القوة التي لا يمكن الاستغناء عنها في المنطقة.
- الثاني، إنها لم تعد الدولة الوحيدة، التي لديها من القوة ما يكفي للتوصل الى تسوية النزاعات سياسيا.
- الثالث، إن الصين أصبح لديها من القوة، ما يؤهلها للمشاركة في صنع نظام عالمي جديد.
- أما الافتراض الرابع فهو أن النظام العالمي الذي تريده الصين هو نظام متعدد الأقطاب، يختلف عن نظام القطب الواحد الذي تريد الولايات المتحدة المحافظة عليه، وأن الصين قد خطت الخطوة الأولى على طريق تحقيق ما تريد.
زخم استراتيجي جديد
هذه الرؤية التي يتبناها هنري كيسنجر، تشمل ضمنا أن الصين أصبح لديها لديها مصالح عالمية تتجاوز حدودها القومية. وسوف نلاحظ من رصد تحركات الدبلوماسية الصينية أنها تسعى لتحقيق مصالحها سلميا، مستعينة أساسا حتى الآن بفائض قوتها الاقتصادية، من خلال "مبادرة الحزام والطريق" التي يشتد عودها منذ إعلانها قبل عشر سنوات. كما تستعين بتقدمها التكنولوجي والعسكري السريع جدا، لإغلاق الفجوة، التي ما تزال تفصلها عن الولايات المتحدة، خصوصا في مجال الرقائق الإلكترونية فائقة السرعة، وفي مجال القوة البحرية والفضائية.
ومن المفهوم أن طريق توجه الصين غربا، بدأ من باكستان، بإقامة بنية أساسية جديدة لطريق الحرير البحري، بإنشاء ممر جديد للتنمية إلى ميناء "جوادر"، الذي يمثل المحطة الأولى من الصين إلى الشرق الأوسط وأوروبا الغربية، ثم ميناء "هامبانتونا" في سريلانكا، وميناء "دار السلام" في تنزانيا، وقاعدة "جيبوتي" البحرية بالقرب من مدخل البحر الأحمر. ويحقق طريق الحرير البحري للصين ضمان مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية مع كل من دول الشرق الأوسط وأوروبا، حيث تعبر من خلال المنطقة نسبة مهمة من تجارتها إلى أوروبا، سواء عن طريق طريق الحرير البري، أو البحري، كما أن مصالحها النفطية والتجارية مع المنطقة نفسها أصبحت كبيرة، إلى الدرجة التي لا تحتمل استمرار حالة "اللانظام الإقليمي"، بما تعنيه من استمرار التوتر والصراع، الذي يؤدي إلى عدم اليقين الاقتصادي، خصوصا بعد أن أصبحت تحصل على ما يقرب من 40 في المئة من إمداداتها النفطية من المنطقة، وأصبحت هي الشريك التجاري الأول لدولها، كما تشارك بقوة في تنفيذ مشروعات تنموية كبرى في مجالات الإنتقال إلى الطاقة النظيفة، وتطوير البنية الأساسية التكنولوجية في قطاعات المعلومات والاتصالات، والبنية الأساسية التقليدية، مثل الطرق والموانئ والسكك الحديد، ومشروعات قومية كبرى، مثل مشروع "نيوم" والتحول الصناعي في السعودية، ومشروع "الألف مدرسة" وتطوير إنتاج النفط في العراق، ومشاريع التوسع العمراني في مصر مثل مشروع "العاصمة الإدارية".
ويبدو أن مبادرة الدبلوماسية الصينية لإعادة العلاقات بين السعودية وإيران، قد خلقت في الأيام العشرة الأخيرة زخما سياسيا جديدا في الشرق الأوسط، يعزز فرص التعايش السلمي على أسس "ويستفالية" تقليدية في ثوب جديد، مثل احترام السيادة الوطنية للدول ووحدة أراضيها، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وضمان أمن الحدود المشتركة، وعدم السماح لقوى تهدد أمن الحدود بالعمل من خلال الدولة الأخرى، وحل الخلافات بالطرق السلمية، وهي المبادئ التي ورد معظمها في نص الاتفاقية الأمنية الجديدة بين إيران والعراق، التي تم توقيعها في بغداد (19 من الشهر الحالي) .
وقد لعبت إيران دورا محوريا في تحريك هذا الزخم، عن طريق الزيارتين اللتين قام بهما رجل طهران القوي الأدميرال علي شمخاني، الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي، المقرب من المرشد الأعلى، إلى كل من الإمارات (16 من الشهر الحالي) والعراق بعدها بثلاثة أيام. وطبقا لما هو معروف حتى الآن، فإن مجال التفاهم السياسي والاقتصادي بين إيران والإمارات يتسع ولا يضيق، مع تأكيد كل من طهران والرياض على أن اتفاقهما ليس موجها ضد أطراف أخرى. أما زيارة شمخاني إلى العراق فإنها تؤسس لنقلة نوعية في مفهوم الأمن الخليجي، وتمهد الطريق لعقد اتفاقيات أمنية بين إيران والدول العربية المجاورة، وربما تقود إلى اتفاقية أمنية جماعية، تضم إيران ودول الخليج في المستقبل.
أمريكا مسؤولة عن فشل النظام الإقليمي
أدى فشل الولايات المتحدة في المحافظة على النظام الإقليمي، الذي قادته في المنطقة منذ نهاية الحرب الباردة، إلى انتشار فراغ سياسي وأمني، وهو الفراغ الذي تقدمت إلى ملئه بثقة كل من روسيا والصين وإيران وتركيا، كما سعت إسرائيل إلى استثماره لمصلحتها، وهو ما تجلى فيما أُطلق عليه "إتفاقيات أبراهام"، التي تمت برعاية الولايات المتحدة في منتصف سبتمبر 2020 ، وضمت دولتين خليجيتين والمغرب. إيران، في واقع الأمر، كانت القوة الإقليمية التي استثمرت الفشل الأمريكي، في توسيع نفوذها بقوة في العراق وسورية ولبنان واليمن وفلسطين، كما زادت مجهودها البحري في مضيق هرمز، وبحر العرب، ومضيق باب المندب، والبحر الأحمر، وأصبح نفوذها في سورية ولبنان والضفة الغربية وغزة، يمثل تهديدا لإسرائيل، في حين أصبح نفوذها في اليمن يمثل تهديدا للسعودية، بعد أن عاد الزيود الشيعة إلى حكم اليمن عام 2015، للمرة الأولى منذ فقدوه عام 1962 بقيام ثورة الجيش بقيادة عبد الله السلال المدعوم من القاهرة.
وكان رد فعل الولايات المتحدة على كل ذلك هو محاولة استثمار التهديد الإيراني، من أجل التربح منه، و زيادة مبيعاتها العسكرية إلى دول الخليج الغنية، التي أصبحت مضطرة لزيادة إنفاقها العسكري إلى ما يعادل ثلاثة أمثال متوسط الإنفاق العسكري في العالم. وانفردت الولايات المتحدة بالنصيب الأكبر من توريد السلاح إلى دول الخليج العربية بنسبة تصل إلى 75 في المئة من مشترياتها، وإلى الدول العربية ككل بنسبة تبلغ حوالي 40 في المئة.
ومن الصعب جدا أن نقتفي أثر أي مبادرة أمريكية لإقامة نظام إقليمي مستقر، على أساس التعاون بين دول المنطقة. كذلك فإنه من الصعب أيضا أن نقتفي أثر أي برنامج تنموي اقتصادي إقليمي للمنطقة، يعادل النفوذ العسكري للولايات المتحدة، حيث يقتصر دورها بشكل عام على استخدام نفوذها من خلال صندوق النقد والبنك الدوليين في تمرير أجندة مصالحها الاقتصادية. وهكذا فإن دور الولايات المتحدة كان في حقيقة الأمر أهم محركات "اللانظام الإقليمي" في الشرق الأوسط، من حيث التركيز على تقسيم المنطقة، وتكثيف عملية "عسكرة" العلاقات داخلها، وغياب البعد التنموي تماما في علاقاتها المباشرة مع دولها. وفي هذا السياق فإنها كانت تسعى بالفعل إلى تسليم قيادة المنطقة لإسرائيل، من خلال قنوات مختلفة، آخرها قناة "منتدى النقب"، وهو المنتدى الذي يحاول صياغة إطار متكامل لنظام إقليمي عسكري - سياسي - اقتصادي بقيادة إسرائيل، يقوم على أساس العداء لإيران والقوى المتعاونة معها.
الفشل الأمريكي أقوى محرك النجاح الصيني
في حقيقة الأمر لم تكن الولايات المتحدة معنية بنقل الوضع الجيوستراتيجي في الشرق الأوسط من حالة "اللانظام الإقليمي"، بما فيها من توتر وصراعات، إلى حالة "نظام إقليمي" مستقر ومستدام، يعزز ويضمن تحقيق الأمن والسلام والتنمية والرخاء لشعوب المنطقة. ومع زيادة اهتمامها بتركيز مجهودها الاستراتيجي الرئيسي على محاربة كل من روسيا والصين وإيران، فإنها اتجهت إلى المواءمة بين استراتيجيتها وبين إستراتيجية إسرائيل الإقليمية.
وقد نجحت إسرائيل بالفعل في تحويل القيادة العسكرية المركزية إلى ما يمكن اعتباره فرعا عملياتيا تابعا لها، فأصبحت الاستراتيجية وأدوات تحقيقها تخضع للتوجهات الجيوسياسية الإسرائيلية، على اعتبار أن اللوبي اليميني الصهيوني في الولايات المتحدة يعتبر أن إسرائيل أجدر بأن تلعب دور "المدير التنفيذي" للمشروع الإسرائيلي - الأمريكي في الشرق الأوسط. ومع أن دور الولايات المتحدة من المفترض أن يتضمن مسؤوليات ذات طابع دولي، مثل عدم الانتشار النووي، وحماية أمن الممرات البحرية، ومنع تمدد النفوذ الصيني والروسي، وضمان إمدادات البترول والغاز للعالم الغربي، فإن التقييم النهائي لدورها الإقليمي يقود للاستنتاج بأنها فشلت في تحقيق كل ذلك تقريبا. وهو ما يعني إنها لم تفشل فقط في إقامة نظام إقليمي مستدام لحماية مصالحها القومية، وإنما هي فشلت كذلك في حماية مصالح المعسكر العالمي الذي تدعي قيادته. هذا الفشل يسمح للصين بحرية استخدام فائض القوة المتاح لديها، خصوصا الفائض الاقتصادي، في تعزيز نفوذها في منطقة الشرق الأوسط وفي أفريقيا، كما يسمح أيضا لروسيا بتعزيز مصالحها الاقتصادية والعسكرية، في الخليج وشرق البحر المتوسط وأفريقيا.
د/ابراهيم نوار
باحث متخصص في العلاقات الاقتصادية والنزاعات الدولية
عضو مجلس أمناء المصري الديمقراطي الاجتماعي
كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي
تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.