06-06-2020
53 عاما مرت على ذكرى نكسة 5 يونيو1967 وكلما مر علينا هذا التاريخ لابد أن نتذكر تأثيره ونتائجه، على الواقع السياسي والعسكري في الشرق الأوسط بشكل كبيرمن معاهدات عسكرية أو تقسيم أراضي أو ضياع حقوق تاريخية للأبد أو تثبيت أنظمة عسكرية وغيره من النتائج، لهذا السبب فإن محاولة فهم التاريخ ومعرفته بشكل جيد ومعرفة حقيقة الأسباب التي أوصلتنا إليه هو أمر ضروري جداً.
هزيمة يونيو -سواء كنت تعتبرها هزيمة عسكرية أو هزيمة للمشروع الناصري- في الحقيقة نحن كمواطنين معركتنا الحقيقية هي في حقنا في معرفة تاريخنا، ولا يخفى عن أي متابع أن إسرائيل أطلقت وثائقها عن حرب يونيو، وعن حرب أكتوبر، وأخرجت للعلن وثائق تتحدث عن خططها السابقة وعملياتها الاستخباراتية بل وحتى أهم جواسيسها مثل "أشرف مروان"، ومن لا يتابع الكتابات الأكاديمية،يمكنه ببساطة متابعة Netflix على كتير من السرديات العسكرية والمخابراتية الإسرائيلية في هذا الشأن وغيره.
في المقابل نحن كمصريين لم تخرج لنا وثائق حقيقية من الأرشيف الحربي أو أرشيف الأجهزة السيادية، أو محاضر اجتماعات رسمية للاتحاد الاشتراكي أو لوزارة الدفاع وهيئة الأركان قبل 67 أو مكالمات عبدالحكيم عامر ومجموعته العسكرية، واعتمادنا إما على الروايات الرسمية، أو بعض المذكرات التاريخية التي بالتأكيد فيها قدر من الانحيازات الشخصية، لكنها إلى حد ما يمكن أن تساعد في تكوين صورة ذهنية ومعرفة جزئية عن النكسة أو حرب الاستنزاف أو انتصار أكتوبر. وبالرغم من مرور 50 سنة على الأحداث لم ترفع السرية عن هذه الوثائق ، ولم يتم حتى تغطيتها بأفلام موثقة تعكس صورة حقيقية للواقع، حتى مع استبشار البعض خيرا بفيلم "الممر" مثلاً بعد كل هذه السنوات ، فهنا نكتشف بسهولة - رغم جرأة تصوير بعض المشاهد في استهداف الضباط والعساكر المصريين وانسحابهم- أن القصة كانت وهمية ولاتحكي البطولات الحقيقية للجيش في حرب الاستنزاف، ولا بطولات الصاعقة ولا بطولات المخابرات الحربية وغيرها من أسلحة الجيش في هذه المرحلة..
وفي هذا السياق أشعر بالامتنان للمؤرخ العظيم الدكتور خالد فهمي لسببين أولهم إنه في جيلي هو أول واحد يطرح هذه الأسئلة بصيغة أكاديمية متزنة ومنضبطة ومنطقية للغاية، بعيدة عن أي عواطف أو انحيازات أيدلوجية، وهو شيء نادر في مصر الحقيقة..
والسبب الاخر هو كتاباته المميزة في هذا الملف والتي نشرها في 13 مقال يصنفوا بدرجة عظيم جداً وضروري جداً الاطلاع عليها، فهي كفيلة بطرح أسئلة وإجابات مختلفة تماماً عن السرديات الثابتة في قوالب، و منها سردية الإخوان والإسلاميين التاريخية التي تزعم أن سبب النكسة هو ظهور الفنانات والرقص والبعد عن الدين وعدم الحكم بالشريعة، أو السردية التانية التي تم تجسيدها في كتاب محمد حسنين هيكل "الانفجار" والتي تتكلم عن المؤامرة الكبيرة المشتركة بين إسرائيل وأمريكا والاتحاد السوفييتي للإيقاع بفارس العروبة وبطلها وقائدها المغوار..
وبالعودة للحدث نفسه ومن واقع مقالات د خالد فهمي وبعض المذكرات المتاحة، اقتبس مشهدين لمأساوية الإدارة السياسية والعسكرية للمعركة ، من بداية التورط فيها بطرد القوات الدولية وغلق مضيق تيران، والاستعراضات العسكرية التي تمت والتصعيد السياسي الغريب الذي قام به عبدالناصر، مروراً بطبيعة الخلاف على الجيش بين عامر وناصر، والتورط في حرب اليمن، وطبيعة الإعداد العسكري المصري والصمت على قائد ضعيف عسكرياً بنى مجده على حرب السويس التي انهزمنا فيها عسكرياً وانتصرنا فيها سياسياً، وتقييم بشكل عام للسياسة التي انتهجها عبدالناصر في الداخل والخارج.
المشهد الأول: وهو من مذكرات عبداللطيف البغدادي، كان يروي فيها كيف عرف عبد الناصر في مقر القيادة العامة في مساء 5 يونيو، وضع قوات الجيش في سيناء وأخبار الضربة الجوية الإسرائيلية. ويقول إنه عند دخوله غرفة مكتب عبد الحكيم حيّاه بـ “والله زمان يا سلاحي”، لكن عندما قرأ تقريراً عن سير العمليات كان موجوداً على مكتب المشير بدأت تظهر على وجهه علامات عدم الارتياح وقال له [أي لعبد الحكيم] “إن خان يونس سقطت، ورفح المدينة محاصرة ـ والاتصال بها مقطوع ـ وغزة تهاجَم.” ثم قال لعبد الحكيم “لا بد لنا أن نعرف الموقف على حقيقته.”
ولكن عبد الحكيم ظل رغم طلب جمال عبد الناصر يشغل نفسه بالرد على التليفونات. وفي النهاية بعد أن فرغ صبر جمال قام ودخل إلى حجرة النوم الملحقة بمكتب عبد الحكيم.
وبعد فترة دخلتُ إلى الحجرة للذهاب إلى دورة المياة وهي من داخلها ـ فوجدت جمال نائماً على السرير ضاجعاً [مضّطجعاً]، وعلى ما يظهر يفكر في المأزق الذي أصبحنا فيه وكيفية الخروج منه.
وبعد وقت قصير خرج جمال من غرفة النوم، وطلب من عبد الحكيم أن يرسل شيئاً للصحف عن المعركة لتعرف الناس الموقف على حد قوله. وذكر: “أن نقول مثلاً أننا توغلنا في أرض العدو وخلافه ـ لأن العدو يذيع بيانات عن المعركة ونحن لا نذيع شيئاً.” !!
أما الاقتباس الثاني: فهو من مذكرات الفريق محمد فوزي رئيس أركان الجيش السابق يروي فيها أن عبد الحكيم عامر استدعاه في 6يونيو ليبلغه قرار الانسحاب، وقال له:
عاوزك تحطّ لي خطة سريعة لانسحاب القوات من سيناء إلى غرب قناة السويس، ثم أضاف: “أمامك 20 دقيقة فقط.” فوجئت بهذا الطلب، إذ إنه أول أمر يصدر إليّ شخصياً من المشير الذي كانت حالته النفسية والعصبية منهارة.
أسرعت إلى غرفة العمليات حيث استدعيت الفريق أنور القاضي رئيس الهيئة، واللواء تهامي مساعد رئيس الهيئة، وجلسنا فترة قصيرة نفكر في أسلوب وطريقة انسحاب القوات، بعد أن أعطيت طلب المشير إلى كليهما. وانتهى بنا الموقف إلى وضع خطوط عامة جداً، وإطار واسع لتحقيق الفكرة …. توجهنا نحن الثلاثة إلى المشير.
وبادرت المشير بقولي: “على قدر الإمكان، وقدر الوقت، وضعنا خطوطاً عامة لتحقيق فكرة سيادتك، ونرجو الإذن بأن يقرأها اللواء تهامي. وبدأ اللواء تهامي في القراءة بقوله: ترتد القوات إلى الخط كذا…. يوم كذا، ثم إلى الخط… يوم كذا، وأن يتم ارتداد القوات بالتبادل على هذه الخطوط لحين وصولها إلى الخط الأخير غرب قناة السويس بعد أربعة أيام من يوم البدء في الانسحاب ـ أي أن يتم الانسحاب في أربعة أيام وثلاث ليال.”
عندما سمع المشير الجملة الأخيرة الخاصة بتحديد مدة الانسحاب، رفع صوته قليلاً موجهاً الحديث لي: “أربعة أيام وثلاث ليالٍ يا فوزي؟ أنا أعطيت أمر الانسحاب خلاص.” ثم دخل إلى غرفة نومه التي تقع خلف المكتب مباشرة بطريقة هيستيرية، بعد أن كان وجهه قد ازداد احمراراً أثناء توجيه الحديث، بينما انصرفنا نحن الثلاثة مندهشين من حالة المشير.
والوقت لا يتسع لسرد الكثير من المواقف، أو لتحليل تلك المأساة التاريخية وفهم أبعادها، وبالتأكيد فإن سرد هذا التاريخ ليس من قبيل جلد الذات أو الشماتة في جيشنا ! فهي كارثة ألمت بنا ولاتزال لها تأثيرات علينا جميعاً، بالأرقام الرسمية راح ضحيتها 10 الآف شهيد من الجنود، و1500 ضابط، بالإضافة لأسر أكثر من 5 الاف جندي و 500 ضابط ( بناء على خطاب عبد الناصر يوم التنحي)، فضلاً عن ضياع سيناء والجولان وغزة، وتدمير 85% من القوات الجوية المصرية دون الدخول في معركة، فهي خسائر لايمكن أبداً لأي وطني إلا أن يحمل معها الحزن والأسى والمرارة على تلك الخسائر وعلى ما تم ارتكابه من أخطاء سياسية وعسكرية دفعت ببلدنا لتلك النكسة.
في هذا الإطار أنصح طبعاً بقراءة مقالات الدكتور خالد فهمي، بالإضافة للكتاب الرائع "في تشريح الهزيمة" الصادر من دار المرايا لمجموعة الباحثين الكبار ( خالد منصور، محمد العجاتي، سامح نجيب، مصطفى عبدالظاهر)، وهويتحدث ليس فقط عن الهزيمة العسكرية لكن أيضا عن النظام الناصري من جوانبه المتكاملة في خطابه وسياساته واقتصاده.
ولنا عودة مرة أخرى يوم 9 و 10 يونيو ومظاهرات رفض التنحي، و من المفيد جداً في الإطار ده قراءة كتابي: "نداء الشعب" و"الزحف المقدس" للدكتور شريف يونس، لفهم هذه المظاهرات تحديداً وفهم أكبر للنظام الناصري بكل مقوماته..
محمد سالم
عضو المكتب السياسي للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي
كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي
تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.