10-04-2022
الحرب الأوكرانية والعقوبات المفروضة على روسيا أكبر مورد للطاقة إلى أوروبا، والضغوط الأمريكية لفك الارتباط بين أوروبا وروسيا أدت جميعا إلى تغيرات في خريطة إمدادات الطاقة على المستوى العالمي. ووسط منافسة محمومة مع الولايات المتحدة التي اقتنصت لنفسها الحصة الأكبر من سوق الغاز المسال الأوروبية، دخلت مصر وإسرائيل في منافسة شرسة للفوز بنصيب في الكعكة. مصر كانت جاهزة بالغاز المسال، وتمكنت من فتح أسواق جديدة خصوصا في هولندا وبريطانيا وتركيا، وزادت حصتها في أسواق أخرى مثل اليونان ومالطا، في حين أن إسرائيل تقود بهدوء محاولة لإعادة الحياة إلى خط أنابيب الغاز البحري الذي يبلغ طوله 1900 كيلومتر الذي تخلت عنه الولايات المتحدة قبل أسابيع قليلة من الغزو الروسي لأوكرانيا، مما أثار دهشة الخبراء بسبب القرار المفاجئ الذي يضرب عرض الحائط بكل المبررات الجيوستراتيجية التي كانت تستند إليها واشنطن في تأييد المشروع.
إسرائيل تجري في الوقت الحالي مشاورات مع كل من اليونان وقبرص، ومن المحتمل أن تضم أيضا مصر وتركيا في مرحلة تالية. وفي إطار تلك المشاورات التقي يائير لابيد وزير الخارجية ببنظيريه القبرصي واليوناني في أثينا، كما التقت وزيرة الطاقة والمياه كارين الحرار بالمسؤولين في قبرص، لمحاولة تسوية النزاع بشأن اقتسام الحوض الذي يقع فيه حقل "أفروديت" القبرصي وحقل "يشاي" الإسرائيلي. وتطمح إسرائيل أن تكون أحد المراكز الرئيسية لإمدادات الطاقة إلى أوروبا، التي قررت أن تقلل كمية الواردات من روسيا بمقدار الثلثين خلال الفترة حتى العام 2027. كما تشمل المشاورات أيضا مد كابل بحري لربط شبكات كهرباء غرب آسيا مع الشبكة الأوروبية.
المحاولة الإسرائيلية ما تزال تواجه العقبات الرئيسية التي أدت إلى تردد أوروبا بشأن المشروع وانسحاب الولايات منه. وتتمثل هذه العقبات في ضخامة التمويل (7 مليارات دولار)، والصعوبات التقنية المرتبطة بمد الخط، و المخاطر البيئية، إضافة إلى القيود الاقتصادية التي ترتبت على نتائج المؤتمر العالمي للمناخ COP-26 التي تقضي بتقليل الاستثمارات في قطاع الوقود الاحفوري لتخفيض معدل الانبعاثات الكربونية الجديدة إلى الصفر بحلول منتصف القرن الحالي.
دور الولايات المتحدة
جاء الغزو الروسي لأوكرانيا ليساعد على تغيير قواعد لعبة الطاقة في أوروبا وشرق المتوسط والعالم كله. وعلى الرغم من كل ما يقال بشأن تخفيف الإعتماد على مصادر الوقود الكربوني، فإن الولايات المتحدة دفعت بقوة إلى زيادة الاستثمارات في ذلك القطاع، وزيادة صادراتها من النفط والغاز الى أوروبا. وكان البيان المشترك بشأن سياسة الطاقة الجديدة عبر الأطلنطي الصادر في يوليو 2018، الذي وقعه ترامب وجان كلود يونكر رئيس المفوضية الأوروبية في ذلك الوقت هو المنصة السياسية التي انطلقت منها صادرات الغاز المسال الأمريكي إلى أوروبا، فزاد نصيبها من الإمدادات إلى أكثر من 50 في المئة حاليا مقارنة ب 2.3 في المئة فقط عند توقيع البيان، أي أنه تضاعف بأكثر من 20 مرة خلال ما يقرب من 3 سنوات.
قرار الرئيس بايدن في يناير 2022 بالتخلي عن تأييد مشروع خط أنابيب غاز شرق المتوسط يكشف إلى حد كبير رغبة أمريكية أنانية في الحصول لنفسها على أكبر نصيب من سوق الغاز المسال الأوروبي، ومنع دخول منافسين جدد، والاكتفاء بتطوير مصالحها بالتنسيق مع منافسيها الحاليين مثل قطر والنرويج وسلطنة عمان والجزائر ونيجيريا. وطبقا لبيانات هيئة معلومات الطاقة الأمريكية فقد أصبحت الولايات المتحدة أكبر مصدر للغاز المسال إلى دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا في العام الماضي، حيث استحوذت على 26 في المئة من الإمدادات تليها قطر بنسبة 25 في المئة ثم روسيا التي تراجعت للمركز الثالث بنسبة 20 في المئة. وفي يناير 2022 قفز نصيب الولايات المتحدة إلى أكثر من 50 في المئة من سوق الغاز المسال الأوروبي.
التطورات في الأسابيع الأخيرة اثبتت الحاجة إلى تحويل الترابط الجيوسياسي والاقتصادي والتاريخي بين أوروبا ومنطقة شرق المتوسط إلى ترابط مماثل في إمدادات الطاقة، وهو الهدف الذي يحول دون تحقيقه غياب البنية الأساسية الضرورية لنقل الغاز الطبيعي والنفط مباشرة إلى أسواق الاستهلاك في أوروبا. كذلك أثبتت تلك التطورات أن تكلفة غياب أمن الطاقة تتجاوز كثيرا التكلفة الاقتصادية لمد خطوط الأنابيب. ومن ثم فإن اتخاذ قرار نهائي بشأن خط شرق المتوسط- أوروبا يجب أن يأخذ في اعتباره التكلفة الباهظة التي تتحملها أوروبا بسبب غياب أمن الطاقة. كما يجب أن يأخذ القرار في اعتباره أن إمدادات الغاز الطبيعي سترتبط مباشرة بالشبكة الأوروبية الموجودة فعلا، ولا تحتاج لإنشاء بنية أساسية جديدة لاستقبال الغاز المسال وإعادة "تغييزه" ليصبح صالحا للضخ في شبكات التوزيع، التي تم إنفاق عشرات المليارات من الدولارات على إنشائها. وفي المحصلة النهائية سيصبح إنشاء خط أنابيب شرق المتوسط وربطه بشبكة الغاز الأوروبية أقل تكلفة وأكثر استدامة على المدى الطويل، مقارنة بإنشاء محطات استقبال وتفريغ وتخزين الغاز المسال، الذي تصل أسعاره إلى ما يتراوح بين خمسة إلى عشرة أمثال سعر الغاز الطبيعي. أما وجهة النظر القائلة بأن أوروبا ستتخلى نهائيا عن الغاز الطبيعي كوقود بحلول العام 2050 ، فإنها لا تسقط الحاجة لاستخدامه كلقيم (مادة وسيطة) في صناعات الأسمدة والكيماويات، كما أنها تعني أن العالم ما تزال أمامه فترة كافية من الوقت للاستفادة بعائد الاستثمار في مشروعات تنمية إمدادات الغاز حتى منتصف القرن الحالي.
القدرة التنافسية المصرية
استطاعت مصر في العامين الأخيرين أن تلعب دورا محوريا في إمدادات الغاز المسال من حقول شرق المتوسط إلى كل من آسيا وأوروبا، حيث قفزت صادراتها إلى حوالي خمسة أضعاف ما كانت عليه قبل ذلك، وما تزال أمامها فرصة لمواصلة زيادة نصيبها من السوق العالمي حتى نهاية العام المقبل على الأقل. وتتمتع مصر بقدرة تنافسية عالية في مجال إنتاج الغاز المسال بفضل وفرة الإنتاج نسبيا، ووجود بنية أساسية قوية في محطة الإسالة في إدكو بالمشاركة مع "شل" الهولندية- البريطانية و"بتروناس" الماليزية، وفي محطة دمياط التي توقفت عن العمل لمدة 8 سنوات بسبب نزاع مع الشريك الإسباني (يونيون فينوسا)، تمت تسويته بدخول "إيني" الإيطالية شريكا. وتعمل المحطتان حاليا بطاقتهما التشغيلية الكاملة. وصدرت مصر في العام الماضي 6.8 مليون طن من الغاز المسال، اتجه 63 في المئة منها إلى آسيا، و31 في المئة إلى أوروبا بما فيها تركيا، التي حصلت في الربع الأخير من العام على أكثر من مليون طن. وتعتبر الصين أهم أسواق تصدير الغاز المصري في آسيا. أما في اوروبا فتنتشر أسواق الغاز المصري في عدد من الدول منها اليونان ومالطا وإيطاليا وهولندا وفرنسا وبريطانيا، اضافة الى تركيا ثاني أكبر مستورد منذ الربع الأخير من العام الماضي. ويساعد موقع مصر الجغرافي على تعزيز مكانتها التنافسية في أسواق آسيا وأوروبا.
ونظرا لحاجة مصر إلى ضمان استمرار صادراتها من الغاز عند مستويات الطلب المتزايد، فقد اتفقت مع إسرائيل في أوائل العام الحالي على زيادة الواردات من الغاز الطبيعي بنسبة 50 في المئة حتى بداية عام 2023 على الأقل. ويتضمن الاتفاق أن تستخدم إسرائيل خط أنابيب الغاز العربي في إمداد مصر بالكميات الإضافية، وهو ما يتيح للأردن الحصول على رسوم عبور للغاز تسهم في زيادة موارد الميزانية، و تعزز استخدام تجارة الطاقة كمجال لبناء شبكة مصالح متبادلة على المستوى الإقليمي. وتتوقع شركتا "شيفرون" الأمريكية و " نيوميد" الإسرائيلية (ديليك للحفر سابقا) صاحبتا امتياز تشغيل حقلي "ليفياثان" و"تمار" أن تصل صادرات إسرائيل من الغاز الطبيعي إلى مصر عن طريق خط الغاز العربي إلى ما يتراوح بين 2.5 إلى 3 مليارات متر مكعب. وقالت وزيرة الطاقة الإسرائيلية أن هذه الكمية يمكن أن تزيد إلى 4 مليارات متر مكعب في السنوات التالية. وجدير بالذكر ان اتفاقية تصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر تنص على إمدادات تبلغ 85.3 مليار متر مكعب على مدى 15 عاما بواقع 5.68 مليار متر مكعب سنويا عن طريق خط عسقلان- العريش. وتدرس إسرائيل زيادة طاقة الخط إلى 6.5 مليار متر مكعب في العام القادم. وتستفيد مصر من تلك الصفقة في تشغيل محطات الإسالة بطاقتها القصوى، والحصول على حصة أكبر من سوق الغاز المسال العالمي، وتعظيم ايراداتها من تصدير الغاز، حيث تسدد لإسرائيل قيمة الواردات بسعر الغاز الطبيعي، وتبيعها في السوق بسعر الغاز المسال، الذي يبلغ عدة أضعاف سعر الغاز الطبيعي المستورد.
وتستهدف مصر تصدير ما يصل الى 7.5 مليون طن من الغاز المسال في السنة المالية الحالية 2021/22 التي تنتهي في آخر يونيو المقبل. ويمكننا الاستنتاج بأن واردات الغاز الطبيعي من إسرائيل كانت تعادل نحو 70 في المئة من كمية الصادرات في عام 2021، ومن المتوقع أن ترتفع بعد إضافة الإمدادات عن طريق خط الغاز العربي إلى حوالي 93 في المئة. كذلك فإن إمدادات الغاز الإسرائيلي إلى مصر تسهم في تعويض النقص في فائض الإنتاج المحلي المتاح للتصدير، بسبب زيادة احتياجات الاستهلاك، حيث يذهب 60 في المئة من الغاز المحلي لمحطات الكهرباء. وتملك مصر قدرات تنافسية إضافية تشمل اتفاقا لمد خط أنابيب بحري لاستقبال الغاز القبرصي واسالته وإعادة تصديره للخارج، واتفاقا آخر لخط أنابيب لتصدير الغاز الطبيعي المصري إلى اليونان، إضافة إلى مشروع لمد كابل بحري للربط الكهربائي بين قارتي أفريقيا وأوروبا عبر البحر المتوسط. كما تتمتع مصر بعلاقات قوية مع تركيا في مجال تجارة الغاز، من المحتمل أن تسهم في تحسين العلاقات السياسية من أجل تنمية المصالح المشتركة، وتوسيع نطاق التعاون في بناء وتنمية شبكات الطاقة على المستوى الإقليمي، وتحويل الطاقة من حلبة للصراع الى ميدان للتعاون المثمر.
د/ ابراهيم نوار
باحث متخصص في العلاقات الاقتصادية والنزاعات الدولية
كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي
تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.