06-05-2023
لعل مصطلح "الديمقراطية" كان من أكثر المصطلحات والمفاهيم التي أثارت جدلاً واسع النطاق، خصوصًا في الفضاء السياسي العربي، وقد ارتبط هذا الجدل دائمًا بماهية المصطلح نفسه وحالة الغموض التي تسيطر عليه بالنسبة لقطاعات واسعة من المجتمع، وتأويلاته التي تتراوح بين "التطرف في نبذه" و"المبالغة في التعبير عن مثاليته"، بين اتجاهات متنازعة ترى في الديمقراطية الشيطان الذي يجلب الفوضى ويعصف بالاستقرار، واتجاهات أخرى ترى فيها النموذج الأمثل للحكم والمخرج من كافة الأزمات التي تشهدها البلاد.
وبنظرة هادئة متجردة، نجد أن الاتجاه الأول والذي "يُشيطن" الديمقراطية، هو اتجاه ليس جامداً أو عبارة عن كتلة واحدة، فهو حصيلة تفاعل مجموعة من الأفكار والتوجهات، التي تتفق على رفض الفكرة الديمقراطية، ولكل فريق من هؤلاء دوافعه واعتباراته المختلفة، فيوجد مثلاً اتجاهات ليست بالقليلة تُعبر عن ما تصفه الأدبيات السياسية بـ "جماعات المصالح"، وهي المجموعات والأفراد التي تحظى بوزن نسبي كبير في منظومة صنع القرار السياسي، وتستفيد من ذلك وتتربح سياسياً واقتصادياً واجتماعياً من غياب الديمقراطية وما تقتضيه من تعددية وتوزيع لمراكز القوة. ويوجد فئات ليست بالقليلة من أنصار هذا الاتجاه تنطبق عليها مقولة عبد الرحمن الكواكبي بأن "بعض الشعوب تتطبع بطباع نظمها الحاكمة"، بمعنى أن هذه القطاعات تشربت فكرة "التنظيم السياسي الواحد"، بما تحمله هذه الفكرة من "إقصائية" واعتبار أن أي توجهات مخالفة للتنظيم الواحد هي توجهات خارجة عن الإجماع الوطني، فضلاً عن عدم إيمان هذه القطاعات بمبادئ "النسبية" و"التعددية" وغيرها من المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الفكرة الديمقراطية، وهو توجه يتبنى فيما بعد خطاب "التكفير السياسي" أو "التخوين". ويوجد قطاعات أخرى في نفس الاتجاه الأول ممن ينتمون إلى "حزب الكنبة" أو بعض دوائر صنع القرار، يرون أن الأولوية هي للاستقرار وحفظ النظام العام وتحقيق التنمية الاقتصادية أو على أقل تقدير الحفاظ على الوضع كما هو عليه، لأن أي تغيير للأوضاع القائمة حتى وإن كان عبر الآليات الدستورية فهو مدخل لزعزعة هذا الاستقرار، ولا يجب إغفال أن قطاعات كبيرة من المجتمع ممن تأثروا بالدعاية المتطرفة لتيارات الإسلام السياسي، باتت لديهم كلمة الديمقراطية مرادفاً للزندقة والكفر. والحقيقة أن الاعتبارات السابقة لا تعني "مثالية" الفريق الثاني الذي يرى أن الديمقراطية هي نظام الحكم الأمثل، إذ أن التجربة السياسية المصرية تُشير إلى أن هذا الفريق لم ينجح حتى اليوم في بناء تنظيمات سياسية قوية تحظى بقبول كبير على المستوى الشعبي، وقد عبرت ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 عن ذلك بشكل واضح، عندما استطاعت تيارات الإسلام السياسي الانقضاض على الثورة وسرقتها مستغلةً في ذلك عدم وجود بنى تنظيمية قوية للتيار المدني المصري، كذلك فإن العديد من الدوائر السياسية التي تدور في فلك هذا الاتجاه تعمد إلى تغييب الديمقراطية عن التنظيمات السياسية الخاصة بها، الأمر الذي يزيد من حجم الفجوة بين هذا الاتجاه وبين المواطنين وقطاعات معتبرة من النخب على حد سواءً، إذ تنظر هذه الفئات في بعض الأوقات إلى الخطاب السياسي المنادي بالديمقراطية على أنه "ضرب من الانتهازية". وبين هذا وذاك تُفرغ الفكرة الديمقراطية من مضمونها، وتُحيد عن ماهيتها وأهدافها الحقيقية، ولعل ذلك كان أحد الأسباب الرئيسية في تعثر تجربة التحول الديمقراطي في مصر في مرحلة ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، لكن ومع دعوة الحوار الوطني التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ عام، عادت كلمة "الديمقراطية" لتصبح المصطلح الأكثر تداولاً في المشهد السياسي المصري، في ضوء ما صاحب هذه الدعوة من آمال عريضة، خصوصاً فيما يتعلق بالتعويل عليها لفتح المجال العام، وإعادة الحياة السياسية إلى مصر، والبدء في إصلاح سياسي حقيقي تأخر كثيراً بحسب تعبير "السيسي". إن الحوار الوطني الدائر حالياً في مصر يمثل فرصة تاريخية، ونقطة تحول مهمة قد ينبني عليها العديد من المتغيرات المهمة في المشهد السياسي المصري، ليس بسبب مخرجاته المنتظرة أو منجزاته على مستوى الأزمات التي تعاني منها الدولة المصرية، وإنما لكونه فرصة للبدء في خلق مناخ ديمقراطي يُهئ الأجواء لإصلاحات كبيرة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ونقطة الانطلاق في ذلك أن يكون مفهوم "الديمقراطية" واضحاً بالنسبة لكافة الفئات المعنية بالحوار والمنخرطة فيه، فضلاً عن المجتمع المصري ككل، فالديمقراطية لا تعني تغليب كفة أحد الأطراف على الطرف الآخر، والديمقراطية لا ترادف الفوضى أو العنف طالما كان هناك مرجعيات دستورية وقانونية تحكم العلاقة بين الفاعلين المختلفين في المشهد السياسي، كما أن الديمقراطية لا تعني اختفاء الصراعات أو الاختلافات بين الفاعلين في المشهد السياسي، بل إن تعدد الاتجاهات السياسية ووجود الاختلافات فيما بينها هو من صميم قواعد الديمقراطية، لكن الفارق أن النظام الديمقراطي هو ذلك النظام الذي يُدير هذه الاختلافات بشكل عادل وسلمي وفي ضوء مبادئ الدستور والقانون، باعتبارها أداة الفصل بين الأطراف المختلفة، بما يضمن عدم الوصول إلى نقطة الانفجار أو اتخاذ هذه الاختلافات أنماطاً صراعية وحادة. إن الرهان على الحوار الوطني هو رهان بالأساس على الحالة التي نأمل في أن يخلقها الحوار، فهو ليس عصا سحرية سوف تعالج كافة أزمات الدولة في ليلة وضحاها، ولكن نقطة الانطلاق لمعالجة هذه الأزمات هي قطعاً تتمثل في إدارة الخلافات والتنوعات في المشهد السياسي المصري عبر الأداة الديمقراطية، بالشكل الذي يضمن وجود حالة من الحوار الدائم بين أطراف العملية السياسية، بعيداً عن خطابات الإقصاء والتخوين، وهي الحالة التي تضمن خلق بدائل وطنية، وتقديم رؤى وأطروحات متنوعة للإشكالات التي تواجه الدولة المصرية على قاعدة من التعددية.
محمد فوزي
كاتب وباحث
عضو أمانة الشؤون السياسية بالحزب
كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي
تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.