25-05-2019
لايوجد في أي تحليل له مصداقية سبب يبرر هذه الأفراح والليالي الملاح، التي يقيمها الاخوة العرب في السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين لقرب اندلاع الحرب الأمريكية (وربما الإسرائيلية أيضًا ) ضد إيران، بل لم يقل أي مصدر أمريكي رسمي، أو أشار بحث أن دول الخليج سوف تخرج من هذه الحرب -إذا نشبت- أكثر أمنًا وسلامًا.
في الوقت نفسه، يكاد يكون «قانون استراتيجي مطرد» أن المحصلة النهائية لاعتماد السعودية وسائر الخليجيين على الولايات المتحدة (وعلى إسرائيل ضمنًا) لهزيمة المنافسين الإقليميين عسكريًا يأتي بنتائج سلبية، وربما عكسية، باستثناء حرب تحرير الكويت من جريمة الغزو العراقي 1990- 1991.
لذلك كان موشى ديان وزير دفاع إسرائيل الأشهر محقًا في قوله إن العرب لا يقرأون ، ولا يستخلصون دروس التاريخ.
فبينما لا تخطئ عين أو أذن مظاهر الحماس، وعبارات البهجة في دول الخليج، كلما خطا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطوة نحو تصعيد الأزمة مع الجار الإيراني إلى حافة الحرب، فلا أحد من أولئك المتحمسين المبتهجين يتوقف ليسأل نفسه: ألم نشاهد مثل هذا الحماس، ونسمع مثل تلك العبارات من قبل؟ وهل جاءت النتائج في كل مرة مثلما كنا نتمناها؟
إنني كمواطن عربي أتذكر شماتة خصوم ومنافسي جمال عبدالناصر في هزيمة الجيش المصري والجيش السوري في حرب 1967، ونعرف منذ وقت طويل، أن عواصم عربية لعبت دورًا رئيسيًا في تحريض الولايات المتحدة على مساعدة إسرائيل والسماح لها بتوجيه ضربة قاصمة لمصر الناصرية، وسوريا البعثية، فهل كان هذا موقفًا صحيحًا لا من زاوية الفكر القومي فحسب، ولكن أيضًا من زاوية المصالح الاستراتيجية بعيدة المدى للشامتين والمحرّضين؟
بطبيعة الحال لا يرد في خاطرنا قط إنكار أخطاء القيادة الناصرية في تلك الحرب، ولا من قبلها، أو الدفاع عن هذه الأخطاء، ولا يرد على الخاطر مطلقًا زحزحة المسؤولية عن الهزيمة من على أكتاف المصريين والسوريين لإلقائها على أكتاف الخليجيين أو السعوديين، على وجه الخصوص، حتى إن كان فيهم من حرض، أو ساعد، أو شمت. ولكن بيت القصيد أو القصد هنا هو أن الخلاص من التهديد الذي مثّله النظام الناصري تحت مسمى الصراع مع الرجعية -ولو عن طريق إسرائيل نفسها- لم يؤد إلا إلى تحويل إسرائيل هذه إلى الدولة الأقوى في الإقليم، وإلى احتلال كامل فلسطين، و مزيد من الأراضي العربية، وتسبب في اندفاع الشعوب للبحث عن بديل «إسلامي» للايديولوجية القومية لمواجهة التحالف الصهيوني الأمريكي، مما أغرق المنطقة كلها بما في ذلك السعودية وسائر دول الخليج في موجات من التطرف تلحق الواحدة منها بالأخرى، فهل ما كسبته السعودية وحلفاؤها من هزيمة النظام الناصري في مصر والبعثي في سوريا في تلك الحرب كان أكبر وأهم مما خسرته هي نفسها وخسره العرب والمسلمون جميعًا، أم أن العكس هو الصحيح؟
لا أظن أن هناك اختلافًا على الإجابة، بأن العكس هو الصحيح، خصوصًا إذا تذكرنا أنه كانت توجد دائمًا فرصًا لتسوية القضايا الخلافية بين مصر والسعودية في ذلك الوقت، وهو ما كان قد بدأ باتفاقية جدة عام 1966 بين البلدين لإنهاء الحرب في اليمن، وسحب الجيش المصري منها.
ولأن العرب لا يقرأون التاريخ، ولا يستخلصون دروسه كما قال موشى ديان، فقد تكررت المأساة بسبب جرائم وخطايا صدام حسين ونظامه في العراق، وهنا ينبغي التمييز بين التأييد الواجب لحرب تحرير الكويت من جريمة وكارثة الغزو العراقي 1990- 1991، وبين الموقف من الغزو الأمريكي البريطاني (الإجرامي أيضًا) للعراق عام 2003،كما سبقت الإشارة، ففي الحالة الأولى لا مجال للمزايدة حول مشروعية طرد الغزاة من الكويت، وشرعية وأخلاقية انضمام العرب إلى التحالف الدولي لهذا الغرض، لكن الأمر يختلف جذريًا في حالة تأييد والمساعدة على غزو العراق نفسها أمريكيًا وبريطانيًا بذريعة القضاء على أسلحة الدمار الشامل العراقية، وبهدف إسقاط نظام صدام، فهذه خطيئة استراتيجية قبل أن تكون خطيئة قومية.
وهنا يعود التساؤل حول ما كسبته السعودية وبقية الدول الخليجية من إسقاط نظام البعث العراقي مقارنة بما خسره الجميع من هذه العملية ليطرح نفسه، ولا أظن أن الإجابة على هذا التساؤل ستكون محل جدال، لأن العراق بعد طرد قواته الغازية من الكويت كان قد انكفأ إلى الداخل يلعق جراح الهزيمة، ويئن من العقوبات الاقتصادية الدولية، ولكنه كان لا يزال يمثل كيانًا عازلًا بين إيران وبين المشرق العربي كله، ومن باب أولى لم يكن للنفوذ الإيراني في الأراضي العراقية نفسها موطئ قدم، ومن المؤكد أن هذا الوضع كان الأكثر ملاءمة للمصالح السعودية خصوصًا، والمصالح الخليجية عمومًا، أما ما أسفر عنه سقوط نظام صدام حسين كمحصلة نهائية فكان ولا يزال تسليم العراق للنفوذ الإيراني، ليمتد من طهران إلى بيروت دون أي حاجز سياسي أو جغرافي.
فضلًا عن انفراد الإيرانيين بالتفوق الاستراتيجي على أعتاب ما كان يسمى يومًا ما بالبوابة الشرقية للوطن العربي، وهو ما دفع كل الدول الخليجية بلا استثناء للاعتماد على زيادة الوجود العسكري الأمريكي لملأ هذا الفراغ المستجد، ثم وقع الضغوط الأمريكية، والغوايات الإسرائيلية التي انطلقت من عقالها بعد دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في واشنطن، توقفت محاولات التهدئة إقليميًا و دوليًا مع إيران، بعد أن كان الاتفاق النووي بينها وبين الدول الكبرى قد هيّأ المسرح لاستئناف الاتصالات الخليجية الإيرانية.
قبل الاستطراد إلى اللحظة الراهنة التي تقف فيها بمنطقة الخليج، والشرق الأوسط على حافة هاوية الحرب بسبب التصعيد الأمريكي المستمر، والتحريض الإسرائيلي الدائم، ضد إيران وسط ترحيب من العرب الخليجيين على وجه الخصوص، يهمنا أن نعيد التأكيد على ما سبق قوله من أن الخسائر العربية والخليجية خاصة من إسقاط نظام صدام حسين كانت -ولا تزال- أكبر كثيرًا من مكاسب هذه العملية، مثلما كانت الخسائر العربية بما فيها الخليجية من هزيمة مصر وسوريا فى عام 1967 أكبر كثيرًا من أية مكاسب مؤقتة تحققت بكسر شوكة مصر الناصرية و تراجع المشروع القومي العربي.
مرة أخرى لأن العرب لا يقرأون التاريخ، فقد كرروا خطيئة تسليم العراق للنفوذ الإيراني في سوريا على وقع عبارات الابتهاج، ومظاهر الحماس تلك التي شهدناها من قبل في حالتى هزيمة جمال عبدالناصر، وإسقاط صدام حسين، فحينما اندلعت الاحتجاجات الشعبية في سوريا- تأثرًا بالربيع العربي في تونس ومصر واليمن وليبيا عام 2011- سارع الخليجيون إلى تحويل هذه الاحتجاجات إلى ثورة مسلحة لإسقاط نظام بشار الأسد البعثي المستند إلى الطائفة العلوية، فاندلعت الحرب الأهلية ولم يجد النظام هناك بدًا من الاعتماد على إيران وحليفها حزب الله اللبناني، قبل أن يدعو روسيا إلى التدخل العسكري في هذه الحرب الأصلية لمصلحته، وهكذا جاءت محصلة الدور الخليجيّ في عسكرة الثورة السورية مزيدًا من النفوذ والوجود الإيرانيين في سوريا، واستقدام الوجود الروسي المسلح، ثم إضعاف كيان سياسي عربي آخر أمام إسرائيل، إلى درجة خروج الجيش السوري تمامًا من معادلة الحرب والسلام، في المنطقة لعدة عقود تالية مع التفاؤل، بل ورهن القرار الاستراتيجي السوري عند كل من طهران وموسكو، حيث تتولى الأخيرة إدارة الشؤون العسكرية في منطقة الحدود السورية الإسرائيلية بالكامل، فضلًا بالطبع عن الهيمنة على المجال الجوي السوري ككل، وعلى ذلك لن تختلف الإجابة على التساؤل حول ما كسبه الخليجيون مقارنة بما خسروه، من تدخلهم فى الشأن السوري، فلا جدال أن الخسائر هائلة، وتكاد تكون المكاسب معدومة، خاصة إذا أضفنا إلى خسائرهم توسع دور حزب الله عسكريًا فى سوريا، بجانب عسكريًا وسياسًا في لبنان نفسها بسبب تلك الحرب الأهلية السورية.
نأتي الآن إلى اللحظة الراهنة.. أي لحظة الوقوف على حافة هاوية حرب أمريكية إيرانية، أو حرب أمريكية إسرائيلية إيرانية، وسط ترحيب وابتهاج خليجي، فبغض النظر عن رؤيتنا لأسباب وعوامل عديدة ترجح عدم نشوب هذه الحرب، اليوم أو غدًا.. يجب التساؤل حول ما سيكسبه العرب عمومًا والعرب الخليجيون خصوصًا من مثل هذه الحرب مقارنة بما سوف يخسرونه.
نبادر قبل الإجابة الى التأكيد على تحفظين مهمين، أولهما أن من حق وواجب دول الخليج أن تقاوم امتداد النفوذ الإيرانى حولها من الجنوب ومن الشمال، والثاني أنه لا مجال للشك -ولو لبرهة واحدة– في التفوق الكاسح للآلة العسكرية الأمريكية على نظيرتها إلا أن أي تفوق عسكري ترد عليه قيود سياسية واقتصادية داخلية وخارجية.
وفي حالتنا هذه فإن إيران تستطيع إلحاق أضرار لا يُستهان بها بالملاحة في مضيق هرمز وباب المندب، وبالقوات الأمريكية في الخليج والعراق، وسوريا، وبإسرائيل بواسطة حزب الله اللبناني، مما يؤدي إلى اشتعال المنطقة برمتها، وامتداد النيران إلى الجبهات الداخلية في الدول التي تضم نسبة مؤثرة من المواطنين الشيعة، فإذا افترضنا أنه أمكن احتواء كل هذه المخاطر، أو الحد من أضرارها، ما الذي سوف يكسبه الخليجيون والعرب عمومًا من تحطيم إيران، ومن ثم تدمير قوة حزب الله، ومن ثم تفريغ الشرق الأوسط برمته استراتيجيًا أمام إسرائيل كقوة إقليمية مهيمنة وحيدة؟ وما الذى يضمن أن هذه الهيمنة لن تكون في المستقبل القريب أو البعيد أشد وطأة وخطرًا على الجميع من إيران، ومن كل ما سبق؟
مرة أخيرة نؤكد أن ما نقصده هنا ليس التسليم بواقع التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية للدول العربية، ولا قبول فكرة تصدير الثورة الإيرانية إلى أي من الجماعات الشيعية في أي مكان في الدول العربية والخليجية على وجه الخصوص، ولا تسويغ أية مساع إيرانية محتملة لإنتاج أسلحة نووية. ولكن ما نقصده هو عدم الاستسلام لفكرة أن الحل الوحيد لكل هذه المشكلات هو الحرب في منطقتَي الخليج والجزيرة العربية، والشرق العربي كله، ولن يخرج فائزًا منه سوى إسرائيل وأصحاب النزعة الامبريالية العنصرية في الولايات المتحدة.
إن عدم الاستسلام لفكرة الحرب يعني كوجه آخر للعملة البحث عن حلول سياسية، والأرجح أن ترامب نفسه يريد مثل هذا الحل، ولكن بشروطه طبعًا، أو بعبارة أخرى بقيود أكثر على السياسات الإيرانية في الإقليم، وكذلك على برامج التصنيع العسكري في إيران، ومن المؤكد أن جميع الدول الكبرى تفضّل الحل السياسي، والاقتراح المحدد هنا هو أن تفوض العواصم الخليجية الدبلوماسية المصرية في المبادرة إلى الاتصال بالدول الأوروبية (المعارضة حاليًا بشدة) للانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي مع إيران، وكذلك بروسيا والصين، للتقدّم إلى مجلس الأمن الدولي بمشروع شامل للأمن الجماعي في الخليج والشرق الأوسط، أو على الأقل للأمن في الخليج والجزيرة العربية بدءًا بالتسوية السلمية للحرب الأهلية في اليمن، وإحياء أو تحسين الاتفاق النووي بين الدول الكبرى وبين إيران، مع التأكيد على وقف التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وعلى إجراءات محددة لبناء الثقة بين جميع الأطراف.
كان الخليجيون والسعوديون بوجه خاص يفسرون سعادتهم بالحروب بين الآخرين حولهم بأن الأفاعي قد تموت من سموم العقارب، ولكن المرجح الآن أن تموت الأفاعى والعقارب معا، ولا يمرح فى الغابة سوى الضبع الإسرائيلي.
الأستاذ /عبد العظيم حماد
عضو مجلس الأمناء بالحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي
الرابط الأصلي للمقال:
https://madamirror13.appspot.com/madamasr.com/ar/2019/05/25/opinion/u/%D8%A3%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D8%B6-%D8%AE%D9%84%D9%8A%D8%AC%D9%8A%D8%A9-%D8%AC%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D8%B1-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D9%81%D9%87%D9%84-%D8%AA/?fbclid=IwAR03tRm2Gr8hCBeq-PSzJgP1t4yVNIMmGQmQNss5rVMmxEiaZDA9quS3qms
كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي
تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.