مقالات

  02-03-2022

الجريمة والعقاب: حرب أوكرانيا، ماذا تعني سياسيا وكيف استعد بوتين للعقوبات الاقتصادية- 2

لماذا فشلت أوروبا في تحقيق هدف "استقلال الطاقة"؟
زاد اعتماد أوروبا على امدادات الطاقة الروسية (الغاز الطبيعي والنفط والفحم) في العقود الثلاثة الأخيرة على الرغم من كثرة التحذيرات من الإفراط في الاعتماد على روسيا، والدعوة إلى زيادة معدلات الاعتماد على النفس والتحول إلى مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة، وإعادة الاعتبار إلى الطاقة النووية، حيث كانت مشروعات التوسع في انشاء محطات الكهرباء التي تعمل بالطاقة النووية قد تأثرت سلبا بكارثة مفاعل تشيرنوبل عام 1986 في أوكرانيا التي كانت في ذلك الوقت جزءا من الاتحاد السوفييتي.
وبسبب الفشل في زيادة الاعتماد الذاتي في مجال الطاقة او تنويع مصادر الإمدادات فإن معدل الاعتماد على روسيا يصل إلى اكثر من 40 في المئة في المتوسط، ويرتفع إلى ضعف هذا المعدل في دول مثل سلوفاكيا والمجر بلغاريا.
كذلك لم تستطيع دول الاتحاد الأوروبي تطوير خطوط أنابيب نقل الغاز وشبكات التوزيع في الاتجاه من الجنوب إلى الشمال، وذلك على العكس من الاهتمام المتزايد بتعزيز الاستثمارات في الشبكات الممتدة من الشرق إلى الغرب.
وعلى الرغم من الحديث المتكرر عن انشاء مراكز لاستقبال وضخ الغاز في بلدان مثل اليونان وكرواتيا، بغرض السعي لزيادة واردات الغاز المسال من دول جنوب البحر المتوسط والشرق الأوسط، فإن المجهود الفعلي لتحويل هذا الحديث إلى مشروعات فعلية كان ضئيلا جدا، وربما كان السبب الرئيسي وراء ذلك هو رخص تكلفة الحصول على الغاز الطبيعي الروسي عبر خط يامال- أوكرانيا وخط السيل التركي الجنوبي، الذي تغذيه أيضا إمدادات الغاز من روسيا وازربيجان.
يلعب عنصر التكلفة دورا كبيرا في القرار الاقتصادي بشأن تنويع مصادر امدادات الطاقة إلى أوروبا، أما بالنسبة للاعتماد على مصادر الطاقة الخضراء مثل محطات الكهرباء التي تعمل بطاقة الرياح أو الطاقة الشمسية فانها شهدت في السنوات الأخيرة فقط اهتماما أكبر مما مضى، ومن المتوقع أن تلعب مع الهيدروجين الأخضر والأزرق دورا كبيرا متزايدا في الفترة حتى منتصف القرن الحالي، وهو ما قد يساعد على تقليل اعتماد أوروبا على امدادات الطاقة من روسيا.
ولا شك أن أوروبا ستحاول في ال 30 عاما المقبلة أن تنتصر على عجزها في امدادات الطاقة، لكن نجاحها في ذلك سيظل في حاجة إلى سياسة تعاونية ذات طابع عالمي، وليس سياسة عدوانية.
الاستغناء عن الغاز الروسي :
وعلى الرغم من انخفاض مخزون الغاز في دول الاتحاد الأوروبي، فإن كمية الاحتياطي التجاري المتاح حاليا في محطات التخزين تكفي لتغطية استهلاك الدول الصناعية الرئيسية في أوروبا وعلى رأسها ألمانيا حتى نهاية فصل الشتاء، على افتراض أن درجات الحرارة لن تنخفض كثيرا خلال الأسابيع المتبقية على بداية فصل الربيع، وعندئذ يقل الطلب على الغاز للتدفئة إلى حد كبير.
وتبلغ نسبة المخزونات التجارية حاليا مستوى شديد الانخفاض يبلغ حوالي 31 في المئة من طاقة التخزين كما ذكرت دراسة أجريت في معهد اقتصاديات الطاقة التابع لجامعة كولون الألمانية، لكن الدراسة تشير إلى أن ألمانيا ستواجه صعوبة بالغة في التخلص من الاعتماد على الغاز، وتتوقع أن حاجتها إلى الغاز ستنخفض بنسبة تتراوح بين 6 إلى 17 في المئة من الآن وحتى عام 2030. وخلال تلك الفترة سيظل الغاز هو المصدر الرئيسي للطاقة في ألمانيا، وهو ما يضع علامة استفهام كبيرة على قدرة أكبر اقتصاد في أوروبا على التخلي عن الاعتماد على الغاز الروسي، وسوف يكون ذلك أحد أهم العوامل التي ستقرر متى تستغني أوروبا عن الغاز الروسي.
لماذا يتدفق الغاز الروسي في شرايين الاقتصاد الأوروبي حتى الآن؟
ما يزال الغاز الروسي يتدفق في شرايين الاقتصاد الأوروبي على الرغم من تعليق قرار تشغيل خط أنابيب نورد ستريم-2. هذا القرار يسبب ضررا لألمانيا والاتحاد الأوروبي أكثر مما يسبب لروسيا أو لشركة غاز بروم صاحبة الإمدادات، التي تمتلك أغلبية أسهم الشركة صاحبة امتياز تشغيل الخط بالشراكة مع شركات طاقة أوروبية هي "شل" الهولندية - البريطانية، و "اينيرجي" الفرنسية، و "أو ام في" النمساوية، إضافة إلى شركتين من كبرى شركات الطاقة الأوروبية. غاز بروم هي أكبر شركة لإمدادات الغاز الطبيعي في العالم، وتستحوذ وحدها على ما يقرب من 17 في المئة من مخزون الغاز العالمي وثلاثة أرباع مخزون الغاز الروسي.
أما نصيبها الحالي في الإنتاج والإمدادات العالمية فيبلغ 11 في المئة، وبنسبة الثلثين في الإمدادات داخل روسيا. وهي فوق كل ذلك تملك أكبر شبكة امدادات لتوزيع الغاز الطبيعي في العالم شرقا وغربا، يصل طولها إلى اكثر من 172 الف كيلو متر، ويبلغ عدد عملائها 30 دولة على رأسها الصين.
العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على خط نوردستريم-2 والشركة صاحبة الامتياز ستصيب أوروبا، وتفتح لشركات الغاز الأمريكية فرصا أكبر لتصدير الغاز المسال بأسعار أعلى، في حين أن خط نورد ستريم-2 كان مستهدفا أن يخفض تكلفة إمدادات الغاز بنسبة 25 في المئة عن تكلفة الإمدادات الحالية عن طريق نوردستريم-1 الذي يمر عبر أراضي أوكرانيا، ويوفر لشبكة الغاز الأوروبية المشتركة حوالي 55 مليار متر مكعب سنويا من الغاز الروسي. وما يزال ذلك الخط يعمل حتى الآن ولكن بطاقة إمدادات أقل بسبب انتهاء عمره الافتراضي تقريبا وكثرة الأعطال التي يتعرض لها.
العقوبات تستهدف التمويل والتكنولوجيا
العقوبات الاقتصادية على روسيا تتضمن شل حركة البنوك الروسية وتجميد أرصدتها في دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا والولايات المتحدة واليابان وكندا وأستراليا ونيوزيلندا بما يتجاوز تريليون دولار، وحرمان الحكومة الروسية من استخدام أسواق المال في تلك الدول لاصدار سندات لتمويل الخزانة وحظر تداول السندات المصدرة فعلا. كما تتضمن العقوبات حظر تجارة السلع التكنولوجية المتطورة، والسلع الثنائية الاستخدام (المدني والعسكري) خصوصا في قطاعات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وأشباه الموصلات والكمبيوتر وصناعات الطيران والفضاء والتطبيقات التكنولوجية الحديثة في مجالات الذكاء الصناعي والليزر.
هذا كله من شأنه أن يعطل القطاعات الصناعية ويقطع سلاسل الإمدادات التي تعتمد عليها، ويجمد المستوى التكنولوجي في روسيا عند ما هو عليه الآن.
وتسري هذه العقوبات أيضا على السلع التي يتم تصنيعها بتكنولوجيا أمريكية خارج الولايات المتحدة، ويقلل خبراء تجارة السلع التكنولوجية من تاثير العقوبات على السوق، نظرا لانخفاض نصيب روسيا، حيث يصب حجم سوق هذه السلع حوالي 25 مليار دولار، من إجمالي السوق العالمية التي تقدر بتريليونات الدولارات.
كذلك فرضت ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي عقوبات شركة نوردستريم-2 إضافة إلى شخصيات سياسية روسية منها وزيري الدفاع والاقتصاد واعضاء مجلس الدوما الروسي الذين صوتوا على قرار الاعتراف بجمهوريتي دونيسك ولوهانسك اللتين أعلنتا الانفضال عن أوكرانيا. وفي محاولة لطمأنة أسواق الطاقة فإن وكالة رويترز نقلت عن مسؤول كبير في الخارجية الأمريكية تأكيدات بأن الولايات المتحدة لن تستهدف قطاع النفط والغاز الروسي بالعقوبات.
هذا التصريح يمثل استجابة لضغوط بادرت بها شركات النفط الأمريكية على قيادات الكونغرس من أجل إجهاض اي محاولة لفرض عقوبات نفطية على روسيا، لأن ذلك يتعارض مع مصالح شركات النفط الأمريكية حول العالم. إن مكانة روسيا على خريطة امدادات الطاقة العالمية واتصالها بشبكة من خطوط أنابيب النفط والغاز تمتد بلا انقطاع الى أهم مراكز الإنتاج في قارتي أوروبا (ألمانيا) وآسيا (الصين)، يعني عمليا أن أي اضطراب في امدادات الطاقة بسبب فرض عقوبات عليها من شأنه أن يصيب العالم كله بالضرر، بل إن هذا الضرر يمكن أن يصل إلى حد إصابة قطاعات مثل الصناعة والنقل وتوليد الكهرباء بالشلل. لكن فرض عقوبات على قطاع الطاقة الروسي، وحرمانها من استخدام نظام "سويفت" العالمي لتسوية المدفوعات الدولية، وفرض عقوبات على الرئيس الروسي شخصيا تمثل حتى الآن المطالب الثلاثة الرئيسية التي تتردد بقوة للرد على اجتياح أوكرانيا، على اعتبار أن تلك هي المجالات التي يمكن فعلا أن تؤثر سلبا على الموقف الروسي.
حرب العقوبات امتدت أيضا إلى مجال الطيران المدني حيث فرضت بريطانيا حظرا على رحلات ايروفلوت الروسية، فردت روسيا بإغلاق مجالها الجوي أمام رحلات الطائرات البريطانية.
كما فرضت روسيا حظرا على الطيران في أجواء مناطق العمليات العسكرية في أوكرانيا، وقد أثارت تلك الخطوات مخاوف بشأن حرية استخدام المجال الجوي الروسي، وعادت شركات الطيران إلى دراسة مسارات طيران بديلة كانت تستخدم خلال فترة الحرب الباردة، وكذلك مطارات بديلة للتزود بالوقود في الرحلات طويلة المدى التي تعبر أجواء سيبيريا.
أوكرانيا هي الخاسر الأكبر من مد خط أنابيب الغاز نورد ستريم -2، وأمريكا هي الرابح الأكبر من تجميده، فهل كان إشعال الأزمة الاوكرانية مجرد ورقة لتعليق تشغيل الخط تحقيقا لمصلحة الدولتين؟
أما بالنسبة لعبور الغاز الروسي من أراضي كل من أوكرانيا وبيلاروسيا فتتولى إدارته شركة مستقلة تحصل على كل امداداتها من شركة غازبروم. وتبلغ قيمة رسوم العبور لكل ألف متر مكعب لمسافة 100 كم طولي 1.75 دولار في بيلاروسيا، ترتفع إلى 2.66 دولار في أوكرانيا.
وتعتبر رسوم عبور الغاز الروسي مصدرا رئيسيا من مصادر الدخل التي تعتمد عليها ميزانية أوكرانيا، حيث تبلغ حوالي 1.2 مليار دولار سنويا، وهي أكثر الدول المستفيدة من رسوم عبور الغاز الروسي. ولذلك فإن عدم تجديد الخط، وانتهاء مرور الغاز الروسي بسبب انشاء نوردستريم-2 يعرضها لخسارة فاتحة. وقد طلب الرئيس الأوكراني من الولايات المتحدة تعويض بلاده بمساعدتك سنوية تعادل قيمة الخسائر في حال اذا فشلت واشنطن في جهودها لتجميد المشروع. وقد تعهد الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن فعلا بتقديم تسهيلات ائتمانية تبلغ مليار دولار خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها فلاديمير زيلينسكي لواشنطن في العام الماضي.
وعلى الرغم من تخبط سياسة بايدن تطاه خط نوردستريم2 في العام الماضي، حيث كان قد أصدر أمرا بتعليق العقوبات على الشركات العاملة في مد وتمويل خط الأنابيب، فإن الأزمة الاوكرانية ساعدت الولايات المتحدة على أن تصبح المورد الأول للغاز المسال إلى الاتحاد الأوروبي، وأن تحقق الشركات الأمريكية هامش ربح أعلى بكثير من ذلك الذي تحققه في أسواق الصين واليابان، التي كانت هي أسواق التصدير الرئيسية للغاز المسال الأمريكي. وبعد قرار تعليق ترخيص تشغيل الخط بواسطة ألمانيا، وحزمة العقوبات الجديدة التي فرضها بايدن على الشركة صاحبة امتياز تشغيل نوردستريم2 التي يرأسها المستشار الألماني الأسبق جيهارد شرودر، فإن الولايات المتحدة تكون قد ضمنت مركزا متميزا على خريطة إمدادات الطاقة إلى أوروبا لسنوات مقبلة في حال استمرت العقوبات.
وفي الوقت نفسه فإن الولايات المتحدة تحاول تشجيع منتجين آخرين، خصوصا قطر ومصر والجزائر على الدخول بقوة إلى سوق الغاز المسال الأوروبي، لأن الولايات المتحدة لا تستطيع وحدها سد فجوة الإمدادات التي ستنتج عن تعليق تشغيل نوردستريم2، والمشاكل التي تعاني منها في الوقت الحالي الإمدادات القادمة من روسيا عبر خط نوردستريم1 الذي يعبر أوكرانيا، بسبب الأعطال التي يعاني منها نتيجة لانتهاء عمره الافتراضي. وتمثل الطاقة "كعب اخيل" في حرب الولايات المتحدة وأوروبا على روسيا، وستظل عنصر ضعفها الرئيسي حتى تجد لها حلا، وهو ما يحتاج إلى سنوات.
د/ ابراهيم نوار
باحث متخصص في العلاقات الاقتصادية والنزاعات الدولية

كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي

تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.