18-06-2025
من كييف إلى طهران، مرورًا بغزة، تتهاوى المبادئ التي تأسّست عليها الأمم المتحدة تحت نيران السياسة، ويتراجع القانون الدولي أمام عجز المنظومة الأممية عن حماية الأبرياء وردع المعتدين. والنتيجة ليست فقط تآكل ثقة الشعوب في العدالة، بل انكشافٌ مؤلم لواقع أصبحت فيه العدالة الدولية خاضعة للحسابات السياسية، لا للمبادئ القانونية.
انتهاكات متكرّرة وصمتٌ دوليٌّ مريب
الضربات العسكرية التي نفذتها إسرائيل على أهداف داخل إيران في يونيو 2025، والتي أسفرت عن سقوط ضحايا مدنيين وتدمير منشآت حيوية، لم تلقَ استجابة جدية من مجلس الأمن أو المجتمع الدولي، بل اكتفى المجلس بعقد جلسة طارئة دون التوصل إلى قرار أو بيان رئاسي. هذه العمليات تمثّل خروقات متعددة للقانون الدولي، منها:
1. المادة 2/4 من ميثاق الأمم المتحدة: التي تحظر استخدام القوة أو التهديد بها ضد سيادة أو استقلال أي دولة دون تفويض صريح من مجلس الأمن أو وجود دفاع شرعي عن النفس وفق شروط دقيقة.
2. مبدأ السيادة وعدم التدخل: كما نص عليه إعلان مبادئ القانون الدولي الصادر عن الجمعية العامة (القرار 2625 لسنة 1970).
3. التحايل على مفهوم “الدفاع عن النفس” (المادة 51): إذ لم يُثبت وقوع هجوم إيراني مباشر على إسرائيل، ولم يتم إخطار مجلس الأمن كما يفرض النص القانوني.
4. خرق القانون الدولي الإنساني: وخاصة البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، الذي يجرّم الهجمات العشوائية أو غير المتناسبة، ويُلزم الأطراف المتنازعة بحماية المدنيين.
5. عمليات الاغتيال خارج الحدود: حيث نفّذت إسرائيل في السنوات الأخيرة عددًا من الاغتيالات لشخصيات إيرانية بارزة داخل الأراضي الإيرانية، من علماء ومسؤولين، في انتهاك مباشر لسيادة دولة عضو بالأمم المتحدة، ودون أي مساءلة دولية.
غزة وفلسطين… الجرح المستمر
ما يجري في غزة وفلسطين يمثل نموذجًا صارخًا لانهيار منظومة العدالة الدولية أمام استمرار الاحتلال والانتهاكات. فمن استخدام مفرط للقوة ضد المدنيين، إلى تدمير ممنهج للبنية التحتية، ومن حصار جماعي يرقى إلى العقاب الجماعي المحظور وفق المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة، إلى الاستيطان والتهجير القسري المخالف للمادة 49 من الاتفاقية نفسها، تُواجه القضية الفلسطينية بتواطؤ دولي وصمتٍ متكرر، على الرغم من عشرات التقارير الصادرة عن هيئات الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية.
بين أوكرانيا، إيران، وغزة: موقف مزدوج للمجتمع الدولي
عند المقارنة بين ردّ فعل المجتمع الدولي حيال غزو روسيا لأوكرانيا وبين الموقف من الضربات الإسرائيلية على إيران والانتهاكات في غزة، تتضح بجلاء ازدواجية المعايير.
في الحالة الأوكرانية:
• اجتمع مجلس الأمن على الفور، ورغم الفيتو الروسي، تحرّكت الجمعية العامة وأصدرت قرارات بإدانة الغزو.
• فُرضت عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على روسيا.
• بادرت المحكمة الجنائية الدولية بفتح تحقيق، وأصدرت مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
• أظهر الاتحاد الأوروبي موقفًا موحّدًا وحازمًا، سياسيًا واقتصاديًا، ودعمًا إنسانيًا وعسكريًا.
أما في حالة إيران وفلسطين:
• لم يُصدر مجلس الأمن أي إدانة رسمية، رغم سقوط قتلى مدنيين ووقوع انتهاكات موثقة.
• لم تُدعَ الجمعية العامة للانعقاد أو التحرك.
• لم تُحرّك المحكمة الجنائية الدولية ساكنًا تجاه الضربات الإسرائيلية، رغم التحقيق المفتوح بشأن فلسطين منذ عام 2021.
• جاء الموقف الأوروبي خافتًا؛ اكتفت بعض العواصم بدعوات لضبط النفس، بينما برّر البعض الآخر العمليات الإسرائيلية تحت عنوان “الردع” أو “أمن المنطقة”.
هذا التباين يعبّر عن واقع صارخ: القانون الدولي يُفعَّل حين يتوافق مع مصلحة الكبار، ويُعطّل حين تمس نتائجه حلفاءهم.
مجلس الأمن… مؤسسة مُقيّدة بالفيتو
تحوّل مجلس الأمن من كيان لحفظ السلم إلى أداة تعطيل، بفعل “الفيتو”، الذي يُستخدم اليوم لتعطيل المساءلة لا لحماية السلام. وقد بدا ذلك واضحًا في فشل المجلس في اتخاذ أي إجراء تجاه الهجمات الإسرائيلية أو الجرائم في غزة، أو حتى عمليات الاغتيال التي تمسّ جوهر السيادة الدولية.
ما المطلوب لإنقاذ ما تبقّى من شرعية دولية؟
إذا كان العالم جادًا في الحفاظ على ما تبقى من القانون الدولي، فلا بد من:
• تقييد استخدام الفيتو في قضايا الجرائم الجسيمة والانتهاكات الإنسانية.
• تفعيل مبدأ “الاتحاد من أجل السلام” لتمكين الجمعية العامة من التحرّك حين يُشلّ مجلس الأمن.
• إصلاح المحكمة الجنائية الدولية لضمان استقلالها ونزاهتها.
• إنشاء آلية رقابة دولية دائمة تُصدر تقارير علنية عن الانتهاكات وتدفع نحو تحرك دولي منظم.
خاتمة: القانون يُقصف بالصمت قبل الصواريخ
ما تتعرض له غزة منذ سنوات، وما حدث في طهران مؤخرًا، وما يُغضّ الطرف عنه حين تكون الدولة المعتدية محمية من قِبل عضو دائم في مجلس الأمن، كلها مؤشرات على أن العدالة الدولية لم تُقصف فقط بالصواريخ، بل بالصمت، والانحياز، والانتقائية.
من كييف إلى طهران، مرورًا بفلسطين، العدالة تحت القصف… والازدواجية في أفضح تجلياتها.
فهل نصمت؟ أم نعيد صياغة نظام عالمي لا يحترم السلاح أكثر من الإنسان؟
د/ فريدي البياضي
عضو مجلس النواب
نائب رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي
تم نشر المقال بموقع اليوم السابع بتاريخ 18 يونيو 2025
كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي
تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.