05-06-2025
بينما كنا نحاول إطلاق النداء الأخير، لإصلاح النظام الانتخابي، وخلصنا أن النظام الأنسب لمصر، هو القائمة النسبية المفتوحة من حيث كونها، الخيار الأفضل لتمثيل التنوع السياسي والاجتماعي، جاءت رياح مشروع قانون الأغلبية البرلمانية، بما لا تشتهي سفن الديمقراطية، وهو حدث كبير له ما بعده.
تبقى أن نواصل طرق باقي الأبواب، من أجل أن تُجرى الانتخابات في بيئة نزيهة وعادلة. وفي هذه الحلقة، نغوص أكثر في هذا الشرط الجوهري: ما الذي يجعل الانتخابات نزيهة وممثِّلة بحق؟ وما الآليات التي تضمن ذلك؟
أولًا: هيئة انتخابات مستقلة بحق
الشرط الأول لنزاهة الانتخابات هو وجود هيئة مستقلة وفعالة تتولى الإشراف على كل مراحل العملية الانتخابية، بدءًا من إعداد الجداول وحتى إعلان النتائج. الاستقلال لا يعني فقط أن تكون هذه الهيئة غير تابعة لأي جهة تنفيذية، بل يجب أن تكون هيئة دائمة، ذات هيكل واضح وموارد مستقلة، تعمل طوال الوقت وليس في مواسم الانتخابات فقط. وتكون من مهامها:
• تحديث الجداول الانتخابية بشكل دوري وباستخدام قواعد بيانات دقيقة مثل السجل المدني.
• الإشراف على تدريب العاملين باللجان.
• تطوير أدوات التكنولوجيا والتصويت.
• إصدار القواعد المنظمة للدعاية والإنفاق والرقابة.
واقترح هنا أن يمتد إشراف هذه الهيئة ليشمل كافة أنواع الانتخابات في الدولة: انتخابات النقابات المهنية، والأندية الرياضية، ومراكز الشباب، والاتحادات الطلابية، وحتى الانتخابات الداخلية للأحزاب السياسية. هذا الاتساع في المهام سيساعد الهيئة على بناء خبرات مستمرة، وتطوير آليات عمل دقيقة، ما يضمن احترافية وعدالة على المدى الطويل، ويمنع الفوضى والتدخلات غير القانونية في كل ما يخص العمل الانتخابي.
ثانيًا: الرقابة الجادة: من يراقب؟ ومن يحاسب؟
لا تكتمل أي عملية انتخابية نزيهة دون رقابة فعالة. ويجب أن تكون هذه الرقابة متعددة المستويات ومتنوعة المصادر:
• رقابة قضائية داخل اللجان لضمان حياد الإجراءات.
• رقابة حزبية من خلال وكلاء المرشحين الذين يتابعون مجريات التصويت والفرز.
• رقابة من منظمات المجتمع المدني، المحلية والدولية.
• رقابة إعلامية مستقلة تسلط الضوء على أوجه القصور والانتهاكات.
لكن الرقابة وحدها لا تكفي ما لم تكن هناك آلية واضحة للاستجابة الفورية لأي انتهاك. وهنا يجب التأكيد على أهمية إنشاء غرفة عمليات مركزية داخل الهيئة المشرفة، تكون مهمتها استقبال الشكاوى من المرشحين والمراقبين، والتحقق منها سريعًا، واتخاذ إجراءات رادعة.
وفي ضوء التطور التكنولوجي، يمكن اعتماد كاميرات مراقبة داخل وخارج كل لجنة انتخابية، تعمل طوال اليوم الانتخابي، ويُسمح لممثلي المرشحين والمتابعين بمشاهدتها، ويُحتفظ بالتسجيلات كأدلة لأي تحقيق لاحق. كما يجب أن يكون القانون واضحًا في تجريم أي تدخل في العملية الانتخابية، وفرض عقوبات حازمة على التزوير أو الضغط على الناخبين أو شراء الأصوات.
الأهم أن تُؤخذ كل شكوى انتخابية على محمل الجد، وتُحقق فيها في وقتها، لا أن تُترك لتصبح مادة إعلامية بلا محاسبة.
ثالثًا: تمويل الحملات والدعاية: ضبط الإنفاق ومنع الفوضى
في كثير من التجارب، يكون المال أحد أكبر معوقات العدالة الانتخابية. في ظل غياب الرقابة، يتحول الإنفاق إلى وسيلة للهيمنة وشراء الأصوات، ويُقصَى المرشحون أصحاب الأفكار لصالح أصحاب الأموال. ما نحتاجه هو:
• تحديد سقف إنفاق واضح وعادل لكل حملة انتخابية، يُراعي نوع الانتخابات وطبيعة الدائرة.
• إلزام المرشحين بتقديم تقارير مفصلة عن مصادر التمويل ونوع الإنفاق، قبل وأثناء وبعد الحملة.
• تشكيل لجنة رقابة مالية داخل الهيئة المشرفة تكون مخولة بمتابعة التنفيذ، ولها صلاحية فرض غرامات أو إلغاء النتائج في حال المخالفة.
ولتفادي فوضى اللافتات والدعاية العشوائية التي تُشوه المدن وتُستخدم في الضغط السياسي، يجب:
قصر الدعاية على شركات متخصصة معتمدة بنظام المناقصات لكل محافظة أو منطقة، بحيث لا يُسمح للمرشح أو أنصاره بطباعة أو تعليق اللافتات بأنفسهم. هذه الشركات تتحمل مسؤولية التنظيم، وتتلقى مدفوعاتها وفق قواعد الإنفاق، ما يسهل مراقبة التكاليف.
كذلك يُطبّق الأمر على الدعاية الرقمية والإعلامية، بحيث لا يُترك المجال لفوضى البلطجة الإلكترونية أو الحملات المموّلة مجهولة المصدر.
رابعًا: الإعلام: حياد وتوازن لا ترويج وتشهير
الإعلام لاعب رئيسي في العملية السياسية. لا يمكن الحديث عن انتخابات نزيهة في ظل إعلام موجَّه لا يتيح سوى رأي واحد، ويغلق أبوابه أمام المعارضة، أو يتورط في حملات تشويه متعمدة. والإصلاح هنا يشمل:
• إلزام وسائل الإعلام العامة والخاصة بإتاحة فرص متكافئة للمرشحين والأحزاب، وفق جداول بث واضحة ومتكافئة.
• منع حملات التشهير والإهانة السياسية، وتغليظ العقوبات ضد أي إعلام يستخدم الشتائم أو التحريض.
• تعزيز التوعية السياسية المستقلة من خلال البرامج التثقيفية، التي تُعرض على مدار العام، لا فقط خلال الانتخابات.
• يجب أن يُفتح المجال العام لجميع التيارات، بما يسمح للناخبين باختيار واعٍ قائم على المعرفة، لا على الترويج الموجه أو التعتيم الإعلامي.
خامسًا: بيئة سياسية تسمح بالمنافسة
النزاهة ليست فقط إجراءات يوم الانتخاب، بل تبدأ من البيئة العامة التي تُجري فيها الانتخابات. لا يمكن لمعارضة حقيقية أن تنشأ إذا كانت الأحزاب مقموعة، أو مقراتها مغلقة، أو قياداتها مهددة. وما نحتاجه:
• وقف تدخل الأجهزة الأمنية في العمل الحزبي والسياسي، ومنعها من دعم أحزاب أو مرشحين بعينهم.
• الإفراج عن جميع المحبوسين في قضايا رأي، فوجودهم في السجون بينما تُجرى الانتخابات يُفقد العملية السياسية مشروعيتها.
• السماح بحرية التنظيم والتجمع، ورفع القيود عن المؤتمرات واللقاءات الحزبية.
من دون ذلك، لن يكون للانتخابات معنى، لأن النتائج تكون محسومة سلفًا في ظل غياب التنافس الحقيقي.
ختامًا: التنفيذ هو مفتاح الثقة
لدينا في مصر ترسانة قوانين ولوائح، بعضها يبدو جيدًا في نصه، لكنه يظل حبرًا على ورق إذا لم يُنفذ فعليًا. وللأسف، تراكمت في ذاكرة الناس خبرات مريرة مع غياب العدالة وتزوير الإرادة، ما جعل الثقة في الانتخابات ضعيفة أو منعدمة. والرد على ذلك لا يكون بالكلام بل بالأفعال. نحتاج إلى تنفيذ صارم وعادل لكل القواعد التي تضمن النزاهة. وعلينا أن ندرك أن هذه العملية ليست لحظة مؤقتة، بل مسار طويل من بناء الثقة، وبناء البنية التحتية الحقيقية للعمل السياسي. ولن تأتي النتائج بين عشية وضحاها، لكن ما يُزرع اليوم من احترام للقواعد وتكافؤ للفرص، سيؤتي ثماره مستقبلًا، حين يشعر المواطن أن صوته يصنع فارقًا، وأن الانتخابات تستحق المشاركة لا المقاطعة.
في المقال القادم من هذه السلسلة، نناقش:
"كيف نواجه التزوير والقمع؟" ما بين الرصد المبكر، ورد الفعل السريع، والدور الشعبي، ودور الهيئات الرقابية والمؤسسات الدولية.
م/ باسم كامل
نشر المقال على موقع "فكر تاني" بتاريخ 25 مايو 2025
كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي
تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.