مقالات

  02-07-2024

لامركزية الإدارة المحلية بين التشريع والتطبيق

بعد أن سادت اتجاهات التحرر وآليات السوق والخصخصة، أصبحت دول العالم – بمختلف أيديولوجياتها – تضطلع بدور جديد في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وبعد تغير دور الدولة من الدور المحافظ إلى الدور المتدخل، وتشعب وظائف الدولة، أصبح من الطبيعي أن يصاحب تلك التغيرات تغيرات في أساليب التنظيم الإداري وأصبحت سياسة اللامركزية ضرورة يقتضيها اتساع نشاط الدولة.

ويبدو أن التعامل الجدي مع قضايا المحليات في مصر أحد الخطوات الرئيسة لتحقيق التنمية الحقيقية؛ حيث يُعدُّ الاهتمام بقضايا المحليات هو الطريق الأمثل للتعامل مع المطالب التي عبر عنها المواطنون، فالتعامل مع قضايا الفقر، والعدالة الاجتماعية، وكفاءة تقديم الخدمات، وخلق فرص عمل حقيقية، والاستجابة لحاجات المواطنين، يتطلب إدارة محلية تتسم بالكفاءة والفعالية والنزاهة. 

وتُعدُّ المحليات هي المدير الأكفأ للعديد من الخدمات، التي تدخل في الحياة اليومية للمواطن لما تتمتع به وحداتها من رؤية أقرب لاحتياجات كل منطقة، على عكس الحكومة المركزية التي تميل دائما إلى تطبيق سياسات ذات طابع واحد على مستوى الدولة بأكملها، لذا، اتجهت العديد من الدول إلى إعطاء الوحدات المحلية صلاحيات كبيرة لإدارة الخدمات في المناطق التابعة لها، وهي السياسة المعروفة بـ"اللامركزية" في الإدارة. 

وفي هذا الإطار ينقسم المقال إلى ثلاثة أجزاء، يتناول الجزء الأول الإطار الدستوري والقانوني للمحليات، في حين يتناول الجزء الثاني تقييم الوضع الراهن للمحليات في مصر. وأخيرًا رؤية مقترحة لإصلاح المحليات في مصر.

الإطار الدستوري والتشريعي للمحليات في مصر 

شهدت مصر منذ عام 1923 وحتى عام 2012 ستة دساتير، تباين اهتمام كل منها بموضوع اللامركزية والإدارة المحلية، ولكن شابها بعض السلبيات التي مثلت عائقا أمام التوجه نحو لامركزية حقيقية تسهم في دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان وتحقيق التنمية ومكافحة الفساد، وقد عالج دستور 2014 الكثير من تلك السلبيات.

وقد تناول هذا الدستور الإدارة المحلية في الفرع الثالث للسلطة التنفيذية في 9 مواد من المادة 175 وحتى المادة 183. ونص في المادة 175 على تقسيم الدولة إلى وحدات إدارية مستقلة، ذكر منها - على سبيل المثال - المحافظات، والمدن، والقرى، تاركًا للسلطة التشريعية أن تنشئ أو أن تلغي من خلال القوانين ما تشاء من وحدات أخرى، وفقًا للمصلحة العامة. وانفرد عن الدساتير الأخرى بالنص على ضرورة مراعاة الظروف الاقتصادية والاجتماعية عند إنشاء أو إلغاء الوحدات المحلية أو تعديل الحدود بينها، وهو ما يمكن من خلاله تجنب مثل تلك السلبيات التي صاحبت إنشاء وإلغاء محافظتي 6 أكتوبر، وحلوان.

ويتميز دستور 2014 عن الدساتير السابقة بالنص على ضمان تمثيل المرأة والشباب والمسيحيين وذوي الإعاقة. فأكد أن يخصص 25% من المقاعد للشباب ما بين 21 و35 سنة، و25% من المقاعد للمرأة، مع ضمان ألا تقل نسبة العمال والفلاحين عن 50% من إجمالي المقاعد. كما أكد ضرورة تمثيل المسيحيين وذوي الإعاقة تمثيلًا مناسبًا ضمن النسب السابقة. وحدد مدة المجالس المحلية بأربع سنوات، كما أتاح فرص الترشح لمن يبلغ 21 عامًا. وقد ذهب الدستور إلى ما هو أفضل مما جاء في دستور 2012؛ حيث نص على أن يتولى المجلس المحلي للمحافظة الفصل في حالة الخلاف على اختصاص المجالس المحلية للمستويات الأدنى من المحافظة. وفى حالة الخلاف على اختصاص المجلس المحلي للمحافظة، فإن الذي يفصل فيه على وجه الاستعجال هو الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع في مجلس الدولة. 

وإذا كان الدستور قد استخدم مصطلح الإدارة المحلية، وليس الحكم المحلي، فإن مضمون المواد يشير بوضوح إلى المفهوم الحقيقي للحكم المحلي. وإذا كان الدستور قد اعتبر الإدارة المحلية فرعًا من فروع السلطة التنفيذية، فإنه قد اعترف صراحة بحق المجالس المحلية في مساءلة القيادات التنفيذية، بما في ذلك حقها في الاستجواب وفى سحب الثقة منها، ومن ثَمَّ لم يُعدُّ هناك مجال لإنكار هذا الحق، تحت دعوى أن الإدارة المحلية جزء من السلطة التنفيذية.

وفيما يتعلق بالإطار التشريعي، فيذكر أن التشريع الأول للامركزية في مصر بعد ثورة يوليو كان يتمثل في القانون رقم 124 لسنة 1960. ولقد تلى ذلك – بعد صدور دستور عام 1971- إقرار العديد من التشريعات لتنظيم الإدارة المحلية والتي تمثلت في القانون رقم 57 لسنة 1971، والقانون رقم 52 لسنة 1975، والقانون رقم 43 لسنة 1979. 

ومن المسلم به لدى غالبية الأكاديميين والممارسين أن التطورات الراهنة وطنيًّا ودوليًّا باتت تفرض – بإلحاح – ضرورة التفكير بجدية في أهمية إيجاد إطار تشريعي جديد للامركزية في مصر يأخذ بعين الاعتبار ما استجد من تطورات خاصة تتواكب مع التوجه نحو اللامركزية وتتناسب مع المرحلة التي تمر بها الدولة المصرية. 

تقييم الوضع الراهن للمحليات في مصر 

باستعراض الإطار الدستوري، والإطار القانوني، يمكن استخلاص مجموعة من الملاحظات التي تمثل عائقًا أمام تطبيق اللامركزية في مصر، والتي يمكن الاستفادة منها أيضًا في وضع تصور ومقترحات لإصلاح الإدارة المحلية في مصر. وتتمثل تلك الملاحظات في سبع ملاحظات كالآتي: 

عدم استقرار الإيرادات المحلية، ويرجع ذلك إلى أن الحكومة المركزية هي التي تقوم بتحديد كل من معدلات الضرائب، والضرائب الإضافية، وجزء كبير من الرسوم المحلية. 

شدة اعتماد موازنات الإدارة المحلية على التحويلات من الحكومة المركزية لتمويل أنشطتها (التي قد تصل إلى 87%) وهذا من ناحية سوف يقلل من قدرة الوحدات المحلية على الاستجابة لاحتياجات وتفضيلات مواطنيها، ومن ناحية أخرى كون هذه التحويلات متغيرة باستمرار وغير ثابتة ومعتمدة على الوضع المالي القومي، فسوف يكون من الصعب على الوحدات المحلية التنبؤ بإيراداتها؛ وبالتالي تنفيذ التزاماتها وخطتها السنوية.

ضعف تصميم نظام التحويلات المركزية الذي يركز على سد الفجوة أو سد العجز دون العمل على تحقيق أهداف هيكلية كالتنمية وتحقيق المساواة بين وحدات الإدارة المحلية.

تهميش دور الوحدات المحلية في التخطيط، حيث إن دورها شكلي ويقتصر على تقديم البيانات والمعلومات اللازمة لصنع خطط التنمية المحلية. 

عدم فعالية أدوات المساءلة المتاحة للمجالس الشعبية المحلية (السؤال، طلب الإحاطة، إجراء التحقيق)، حيث كان حق الاستجواب للمجالس الشعبية المحلية في الفترة من عام 1975 إلى عام 1979، ومن الفترة من عام 1981 إلى عام 1988. 

ازدواجية الولاء من قبل كبار العاملين في المحافظة إلى الوزارة الأم من ناحية وإلى المحافظ من الناحية الأخرى. 

التركيز على لامركزية المسؤولية دون لامركزية السلطة؛ حيث إن المحافظ يشرف على تنفيذ السياسة العامة للدولة، وكذلك الإشراف على مرافق الخدمات والإنتاج في نطاق المحافظة، وكل ذلك دون أن يكون له سلطة واضحة في تعيين وكلاء الوزراء في محافظته.

رؤية مقترحة لإصلاح المحليات في مصر 

هناك مجموعة من المداخل لتطوير المحليات في مصر، وهي: 

1- المدخل القانوني

§ إعادة النظر في الصلاحيات والاختصاصات المقررة للمحافظين، بما يعزز من قدرتهم على إدارة المرافق العامة ويؤكد مسؤوليتهم على كافة الخدمات الفنية والإدارية التي تقدمها المرافق. 

§ ضرورة أن يكون التمثيل في المجالس الشعبية المحلية على أساس عدد السكان، وليس على أساس عدد الأقسام الإدارية أو المراكز، تحقيقًا لمبدأ المساواة والعدالة في التمثيل بين الوحدات المحلية.

2- المدخل المالي

§ التحديد الواضح للضرائب والرسوم التي تخص الحكومة المركزية وتلك التي تخص الحكومات المحلية، مع منح المحليات صلاحيات فرض الضرائب والرسوم المحلية والإعفاء منها.

§ وضع معايير محددة ومناسبة يتم على أساسها توزيع التحويلات المالية الحكومية على الوحدات المحلية.

§ أن يكون لكل وحدة محلية موازنة مستقلة يتم إعدادها واعتمادها على المستوى المحلي، دون الحاجة إلى إدراجها ضمن الموازنة العامة للدولة، وقصر علاقة الموازنة العامة للدولة بالمحليات على الإعانة المقدمة للوحدات المحلية.

§ تخصيص نسبة من الضرائب المركزية والرسوم التي تؤول حصيلتها إلى الحكومة المركزية للمحليات.

§ الاستفادة من فرص الاقتراض المحلي عن طريق وضع نظام مرن يسهل عملية الاقتراض، بالإضافة إلى وجود عدد من مؤسسات التمويل وتدريب العاملين بالمحليات على إدارة الدين.

3- المدخل الإداري

§ إزالة التشوهات في خريطة الوحدات المحلية، والقضاء على التداخل بين مستوى المركز والمدينة، لتصبح وحدات الإدارة المحلية هي: المحافظة، القرية، المدينة، الحي.

§ تقليل أعداد أعضاء المجالس الشعبية المحلية، مع رفع بدل حضور جلسات المجلس بما يتواءم مع ظروف الحياة وما يتحمله الأعضاء من أعباء فعلية.  

§ تنمية قدرات العاملين في وحدات الإدارة المحلية من خلال برامج التدريب، وتصحيح الخلل في هيكل الأجور، وتوعيتهم بمفهوم المشاركة والمساءلة.

§ ضرورة وضع آليه لتقييم أداء القيادات والوحدات المحلية، وذلك من خلال قياس جودة الخدمة (كمًا ونوعًا) عن طريق أخذ رأي متلقي الخدمة.

وجدير بالإشارة أن الإرادة السياسية تعد هي المتطلب الرئيس للمضي قدما للتطوير المنشود، حيث إن الإصلاح وما يترتب عليه من إعادة توزيع السلطات والمسؤوليات والأوعية الإيرادية لن يتم إلا في وجود إرادة سياسية داعمة للسير في هذا الاتجاه. 

د. آمال سيد

خبير الإدارة المحلية

عضو الهيئة العليا للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي

كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي

تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.