24-06-2025
"على إيران الاستسلام غير المشروط، ولديها فرصة أخيرة لذلك"، ترامب.
"إيران لن تستسلم ولن تقبل أن يفرض عليها سلاما أو حربا"، خامنئي.
في قلب المشهد الجيوسياسي الراهن، تبدو لحظة التوتر العسكري الآنية بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية ليست مجرد صدام عسكري بين الدولة التي رعت محور المقاومة ورفعت شعار الموت لأمريكا، وبين القوة الأكبر عالميًا التي تُعيد ترتيب موازين القوى لصالح فتاتها المدللة لتعربد كما تشاء. وقد لا تُرى أيضًا باعتبارها مجرد صراع سياسي متصاعد ينتظر الحسم بالتفاوض أو بالحسم العسكري الكامل، بل تظهر هذه اللحظة كحلقة ضمن حلقات الصدام الحضاري بين الغرب والشرق، على خطوط التماس بين حضارة شرقية عريقة تمتد لـ ٦ الاف سنة، وبين قوة أخرى حديثة تسعى لفرض “نهاية التاريخ”، وتنهي به هذا الملف لتستمر في تذويب مزيد من الحضارات والدول الأخرى.
لنفكك هذا المشهد عبر ٣ عدسات كبرى:
١️- ميراث الحضارة الإيرانية
٢️- قيم المشروع الغربي
٣- التجربة اليابانية كنموذج سابق
إيران… حضارة لم تُهزم بالكامل
الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ليست دولة حديثة بلا عمق، بل هي امتداد لحضارة قديمة وريثة الإمبراطورية الفارسية، منذ الأخمينيين والساسانيين والصفويين. وبالرغم من تقديمها نسخة للحكم الإسلامي بالمذهب الشيعي الذي ألهم في الماضي كافة الحركات الإسلامية في المنطقة لإعادة الظهور تحت مسمى "الصحوة الإسلامية".
إلا أن هذا النموذج لم يعمل على القطيعة مع العمق الثقافي الضارب في الجذور، فهي جمهورية إسلامية ولكنها في الأصل إعادة إنتاج للقومية الإيرانية، تتحدى الحضارات الأخرى التركية، وتنظر للعرب بنظرة مُنتَقِصة، بل وربما يرى النظام الإيراني الثوري أنه كاتب فصل جديد من الملحمة الشعرية الرهيبة "الشاهنامة"، والتي كتبت على مدار ٣٣ عامًا، كانت كفيلة بحفظ اللغة الفارسية التي كادت أن تندثر تحت راية الإسلام وهوية العرب، ورسخت في الوعي الإيراني سرديات البطولات والمقاومة والهوية الفارسية.
وقد تكون صورة "الخميني" في الأذهان هي ذاتها صورة الفارس "رُستم" الممتطي جواده الأبيض، يقاتل أعداءه، تلك الأسطورة التي جسدها "الفردوسي" في ملحمة الشاهنامة، لذا لم يكن غريبًا على الإطلاق أن يقوم الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد في زيارة لبابا الفاتيكان "يوحنا بولس الثاني"، أن يهديه كتاب الشاهنامة، ويقول هذا كتابنا، صحيح أن القرآن هو كتاب المسلمين ومن المنطقي لرئيس الجمهورية الإسلامية أن يهديه لبابا الفاتيكان كرمز لما يعبر عنه، لكن الشاهنامة كانت أكثر اتساقًا مع القومية الإيرانية، فهي "قرآن الفرس" الذي حفظ لغتهم وهويتهم وميزها عن العثمانيين والعرب والروم والتركمان والمغول.
في هذا السياق من الإرث الحضاري، يظهر البرنامج النووي الإيراني ليس مجرد طموح دولة عادية، ولن يُسمح به كما حدث مع باكستان أو كوريا الشمالية، بل هو تعبير عن التحدي الرافض لأن تكون إيران دولة وظيفية تابعة تدور في فلك المنظومة الغربية، إيران هنا تبحث عن الاعتراف.
الاعتراف بالقيمة والكرامة والمكانة والاستقلال، الاعتراف بإيران كدولة قوية ومؤثرة إقليمًا محتفظة بهويتها الثقافية والحضارية، يتفاوض العالم معها ويحترمها بما يليق بإرث تلك الحضارة ومساحة هذا البلد وتنوع أعراقه وقوته الجغرافية المطلة على مضيق يتحكم في تدفق حركة التجارة، وخليج ينعم باحتياطات جبارة من الغاز، وأراضي تتمتع بثروات البترول، وشعب قادر على تحمل الانغلاق والعزلة لعشرات السنوات، يعتمد على ذاته في الإنتاج، ويُبهر العالم بدرة إنتاج من العلماء النوويين القادرين على وضع إيران رأسًا برأس في امتلاك القوة النووية مع القوى العظمى، فكيف يمكن أن تتخلى إيران عن كل هذا ببساطة ؟
المشروع الغربي
في الزاوية الأخرى يقف الغرب، وتقوده أمريكا كحامل لمشروع مختلف، مشروع المنتصر والمهيمن بعد الحرب الباردة، مشروع يرى في نفسه أنه قام بإنهاء الأيدولوجيا في العالم، وأنه لا مكان إلا للانصياع الكامل لقيم الليبرالية السياسية والاقتصادية وتمجيد النزعة الفردية، وسيطرة الرأسمالية بشكل كامل.
هذا المشروع الغربي، هو تمامًا ما جسده فوكوياما باختزال مخل في كتابه نهاية التاريخ، حيث لا مجال لمن هم خارج النظام العالمي إلا الإجبار على التكيف أو الانهيار الكامل. وأنه لا مجال لإصلاح المنظومة إلا من داخل نفس المنظومة، ربما كان لإيران أن تنجو بنموذجها إذا ما كانت بعيدة عن الولاية المحببة إسرائيل، إلا أن حظها العثر أنها في قلب خط التماس مع هذا الذراع المجسد لمشروع دخيل على هذه المنطقة وحضاراتها الإسلامية والفارسية والعثمانية.
اليابان… النموذج الذي يُراد تكراره؟
اليابان إحدى الحضارات العريقة الممتدة لآلاف السنين، امبراطورية محاربة بثقافة الساموراي، كانت منغلقة حتى ثورة "ميجي" التي دفعت اليابان للخروج من حدودها عبر تحديث قوتها العسكرية وتنمية صناعتها وإقامة دولة مركزية. خرجت لتهزم الصين وروسيا وتحتل منشوريا وكوريا وطمحت بوضوح لقيادة آسيا، عبر السيطرة على الصين، والامبراطورية القيصرية الروسية. هذا المشروع الامبراطوري القومي، الذي انخرط في الحرب العالمية الثانية ضمن دول المحور.
وبعد مقاومة اليابان القوية في الحرب، أجبرت تمامًا على "الاستسلام غير المشروط"، قنبلتي هيروشيما وناجازاكي، كانتا كفيلتان باستسلام الامبراطور والخضوع الكامل لكافة شروط الغرب، فتمت إعادة هندسة شاملة لليابان، دستور جديد، دولة بلا جيش، ارتباط كامل بالمركز الأمريكي، باختصار وُلدت يابان جديدة حديثة صناعيًا وتكنولوجيًا، لكن منزوعة المخالب لا تستطيع مواجهة أطماع القوى من حولها بدون استعانة بالحماية الأمريكية، أصبح هذا الأرخبيل من الجزر الممتد من عصور ما قبل التاريخ، حضارة مُروّضة.
===============================
السؤال الآن، هل ما يطلبه ترامب الآن هو أن تتحول إيران إلى يابان أخرى ؟
بعد الانخراط العسكري الأمريكي المباشر في ضرب المنشآت النووية الإيرانية، والتي أراها حتى الآن ضربة إعلامية وتهديدية أكثر منها ضربة تدميرية، لكن حركة المدمرات والطائرات الشبحية وانتشار القوات، مع تصريحات ترامب، تضع إيران أمام لحظة يابانية جديدة.
إيران التي لا يفصلها عن إنتاج القنبلة النووية وامتلاك قوة الردع سوى أمتار بسيطة، أصبحت أمام مفترق طرق، فإما الاستسلام الكامل بما يشمل إنهاء المشروع النووي وتجميد قوتها الباليستية وتحويل نظامها السياسي إلى سردية امبراطور اليابان "اللاشيء المقدس"، تحتفظ فيه إيران بهيكل نظام حكم على رأسه المرشد، لكن بلا مبرر للحكم، ويُترك النظام ليتحلل ويدمج تدريجيًا في النظام الدولي بكافة الشروط الغربية.
أو تقاوم إيران حتى اللحظة الأخيرة، لكن ستؤول لنفس المصير، استسلام غير مشروط بعد كارثة إنسانية كبرى ستؤثر على المنطقة بأسرها، لكن دون أن تنكسر صورة المقاتل "رستم" من الأذهان. أو تنجح إيران في إنتاج موائمة جديدة تضمن بها تهدئة الهجمة عليها وتعيد استكمال مشروعها النووي في اللحظة المواتية بعد انطفاء موجة ترامب المتوحشة.
الخلاصة هي أن ملف النووي الإيراني الآن يجسد لحظة صراع بين تصور فوكوياما عن نهاية التاريخ، وسردية هنتنجتون عن الصدام الحضاري المحتوم، وعن مقاومة الحضارة الإسلامية والكونفوشية للحضارات الرومية والغربية، بين مقاومة حضارة عريقة تسعى للاعتراف والاستمرار بدلًا من النبذ والمحاصرة، وبين إرادة غربية تسعى لصهر كل الهويات دون رحمة، فنحن إذًا أمام فصل جديد في ملحمة صراع الحضارات، ستعير رسم وضع الشرق الأوسط كما لم يُرسم من قبل.
د/ محمد سالم
أمين الهيئة البرلمانية للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي
* الصورة مصممة لدمج تمثال الحرية الأمريكي في مقابل فرسان ملحمة الشاهنامة.
كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي
تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.