07-01-2025
السؤال هو عن سمات الإقليم الذى تعيش فيه مصر. الإقليم المقصود فى هذا المقال هو ذلك الذى تلتهب فيه الصراعات منذ قرن مضى وبؤرته في فلسطين، وفي سوريا والعراق ولبنان. مصر طرف في هذا الإقليم تاريخياً، مصر القديمة ومصر الإسلامية، وفي العصر الحديث ارتبطت به سياسيًا وثقافيًا، فى الحرب والسلم، منذ الربع الثاني من القرن التاسع عشر. والسؤال كذلك عن الفاعلين في هذا الإقليم، من داخله ومن خارجه، ثم هو أيضًا سؤال قديم عما إذا كان الإقليم عربيًا أم شرق أوسطيًا؟
الرد على هذه الأسئلة يستدعي سؤالاً جوهريًا إضافيًا، وهو ما عسانا نفعل في الوقت الحالي كى ننشئ نظاماً للعلاقات في الإقليم يكفل له الاستقرار لفترة معقولة من الزمن؟ استقرارًا يوفر السلم والأمن، ويسمح بالبناء والتنمية، للأطراف الواقعة فيه.
المناسبة في التساؤل هي تفاعل المأساة المحيقة بغزة منذ خمسة عشر شهرًا، والتى امتدت إلى لبنان منذ شهر سبتمبر الفائت، مع التغير المفاجئ الجذري في سوريا الشهر الماضى.
أول سمات الإقليم هو التعدد الموجود فيه. لا يختلف الإقليم في ذلك عن أقاليم العالم الأخرى، وإن كان للتعدد فيه خصائصه فضلاً عن أن التمايزات الداخلية فيه أكثر منها في أقاليم العالم الأخرى.
يضرب المثل بلبنان على أن فيه ثماني عشرة طائفة دينية وعرقية معترفًا بها فى النظام السياسي اللبناني.
النظام السياسي في العراق بعد الغزو الأمريكي فى سنة 2003 اقتبس من لبنان فاعترف بالتعدد الديني والعرقي الموجود فيه وجعله أساسًا له.
التعدد شبيه فى سوريا، ومن نفس الطوائف تقريباً وإن كان بنسب متفاوتة، وإن لم يعترف به وبها رسميًا النظام السياسي السوري منذ الاستقلال وحتى اللحظة، التعدد موجود في الأردن أيضا وفى فلسطين.
في الإقليم عرب وأكراد وتركمان وأرمن وشيشان ومسلمون: سنة وشيعة وإسماعيلية ودروز، ومسيحيون: موارنة وروم أرثوذوكس وبروتستانت إنجيليون وكاثوليك مالكيون وكلدانيون وسريان وأرمن أرثوذوكس وأرمن كاثوليك، وعلويون ويزيديون ويهود.
في مصر، التعدد محدود في ديانيتين، الإسلام والمسيحية، والطوائف في هذه الأخيرة صغيرة لا تستطيع أن تزاحم على المكانة الأغلبية القطبية الأرثوذوكسية. العرق واحد تقريبًا وإن دخلت إليه روافد بشكل طبيعي من هنا أو هناك. العرق النوبى صغير لا يمكن اعتبار تمايزه ناشئًا عن أى شق معتبر فى جسم المجتمع.
التعددُ تنوعٌ وهو ثراءٌ لأى مجتمع، في الإقليم التعدد فخر له فهو بينة على استيعابه التاريخي لمكوناته المتباينة. الدولة الوطنية فى أقاليم العالم المختلفة منسوبة للمجموعة القومية أو العرقية الأكبر حجمًا كما هو الحال فى رومانيا والمجر وبولندا مثلاً الناشئة بعد سقوط الإمبراطورية النمساوية المجرية بنهاية الحرب العالمية الأولى والمنسوبة للقوميات الرومانية والمجرية والبولندية على الرغم من وجود أقليات عرقية فيها، أو أقليات دينية.
على نفس المنوال، فى إقليمنا الدولة الوطنية هى دولة عربية لأن أغلبية سكانها من العرب. المشكلة في إقليمنا هو أنه لترسيخ الدولة الوطنية لجأ حكامها إلى القوة للتغلب على التمايزات السياسية ومعها الاقتصادية الاجتماعية فيها. النتيجة هى أنه بدلا من ترسيخ الدولة برزت التمايزات الطائفية والعرقية فيها. لا توجد مجتمعات مسطحة ملساء.
الفاعلون من الإقليم فى عشرات السنين الأخيرة هم الدول الناشئة عن انهيار الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى لمجموعات من السكان، وهي سوريا ولبنان والأردن والعراق، فضلاً عن مصر التي سلكت طريقًا مختلفًا لتكوُّن الدولة الحديثة فيها. إلى جانب هذه الدول الوريثة للدولة العثمانية، أرست الحركة الصهيونية أسس إسرائيل ثم أنشأتها كدولة حارمة سكان فلسطين من أن ينشئوا دولتهم على غرار الدول التي نشأت للعراقيين والسوريين والأردنيين واللبنانيين. بعد حروب عربية إسرائيلية وحروب أهلية ممتدة، صار الفاعلون فى الإقليم في الوقت الحالي أولاً هم هذه الدول العربية ومعها مصر، بالإضافة إلى إسرائيل.
ومن الإقليم أيضًا فاعلون من دون الدولة. من هؤلاء فاعل استولى على السلطة فى سوريا في ديسمبر الماضى وليس واضحًا بعد إن كان قد أصبح الدولة بلا منازع أم فاعلاً إلى جانبها، بالإضافة إلى فاعلين آخرين في الجنوب والشمال الشرقي وفي غيرهما.
فى لبنان، حتى بعد كسر شوكة حزب الله، فاعلون طائفيون سياسيون ينافسون الدولة الضعيفة تاريخيًا نتيجةً تأسيسها على التمايزات الطائفية. العراق يحاول الانبلاج من سنواته السوداء وإن كان فاعلون محليون مازالوا ينافسون الدولة فيه على اتخاذ القرار السياسي.
إسرائيل فاعل أساسي في الإقليم فها هي وقد دمرت غزة، وقتلت وأصابت عشرات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني وما تزال. وإسرائيل عاثت فى لبنان فسادًا، قذفت عاصمته وجنوبه وشماله وفجرت ما فجرت وقتلت من قتلت من مواطنيه، وتوغلت في جنوبه واستولت على أرض فيه. الشىء نفسه فعلته في سوريا حيث احتلت جبل الشيخ الاستراتيجي ودمرت طيرانها وبحريتها ومعدات جيشها وأسلحته. كبح جماح إسرائيل يستدعي التعامل معها كفاعل فى الإقليم.
فاعلان آخران من الإقليم هما تركيا وإيران. الرياح فى شراع تركيا في الوقت الحالي، سواء كانت قد شجعت هيئة تحرير الشام على الزحف على دمشق أو ساعدتها فإن تركيا مستفيدة من إستيلاء الهيئة على الحكم في سوريا. هذا الاستيلاء يفيدها داخليا فهو يمكنها من الحديث عن عودة اللاجئين السوريين فيها حتى وإن لم يعد أغلبهم فعلاً، وهو يسمح لها بالتعامل مع الأكراد الذين تعتبر نشاطهم مسألة وجودية.
أما إيران فإن تأثيرها كفاعل في الإقليم قد تراجع بعد الضربات التى أنزلتها إسرائيل بحزب الله ثم بسقوط نظام الأسد فى دمشق، ومن قبل ذلك بما فعلته إسرائيل بغزة وحماس، الحوثيون وهم وسيلة الدفاع المتقدمة الثالثة لإيران يتعرضون هم أيضا للضربات.
ومع ذلك ستبقى إيران فاعلاً فى الإقليم لعلاقاتها بالعراق وبالخليج، ولأن إسرائيل تراها كذلك، إسرائيل تعتبر أن القدرات النووية الإيرانية، سلمية كانت أو عسكرية، تهدد هيمنتها وفرض إرادتها فى الإقليم.
الرد على سؤال ما إذا كان الإقليم عربيا أو شرق أوسطيا أصبح يسيرًا، أغلبية الفاعلين فيه دول عربية والبيئة المحيطة به عربية في الخليج والمغرب العربى، والإقليم مع هذه البيئة يشكل إقليمًا عربيًا أوسع لا بد من ترسيخه وإن كان على أسس غير تلك التي درج عليها حتى الآن، إلا أنه، وعلى الرغم من سخف مفهوم الشرق الأوسط وسيولته، فلأنه لا يوجد غيره، نركن إليه ونستخدمه لأن تركيا وإيران وكذلك إسرائيل تتفاعل مع الأطراف العربية في الإقليم سواء كان هذا التفاعل إيجابياً أو سلبيًا.
الفاعلون الخارجيون أولهم الولايات المتحدة لأسباب لا ضرورة لتفسيرها هنا وأولها مساندتها المطلقة لإسرائيل فضلاً عن علاقاتها بدول الإقليم الملتهب وببيئته. روسيا فاعل خارجى آخر جار للإقليم وذو علاقات ممتدة معه في العقود الثمانية الماضية على عهد الاتحاد السوفيتى ثم بعد تفككه. الاتحاد الأوروبى فاعل يعتد به أيضا بمقتضى علاقاته فى الإقليم ولجيرة بعض الدول الأعضاء فيه التى كانت ملجأً للفارين من صراعاته.
أما عن ماذا عسانا نفعل، فهو يبدأ بأن تنظم كل دولة عربية أحوالها وأن تعيد إنشاء نظامها السياسي على أسس المساواة فى الحقوق والواجبات، وعدم التمييز، وحريات المواطنات والمواطنين في التعبير وفى التجمع وفى تمثيل أنفسهم ومصالحهم. هذا هو السبيل لترسيخ الدولة الوطنية والتغلب على التمايزات العرقية والطائفية دون حاجة لممارسة العنف لكبتها. التصدى للتمايزات السياسية والاقتصادية الاجتماعية يكون بالأخذ والعطاء وبالحلول الوسط وليس بممارسة القوة والعنف والسلطوية. بناء الأنظمة السياسية على نفس الأسس يكفل نشأة علاقات تعاونية بينها واستمراريتها. هذه العلاقات التعاونية زاد لمصر ولغيرها من الأطراف العربية عندما تتحرك ضمن مفهوم الشرق الأوسط. النظام السياسى الفلسطينى ينبغى إعادة بنائه هو الآخر بمساعدة من الدول العربية ولكن على أن تكف عن التداخل فيه كما فعلت فى العقود الماضية.
على مستوى الشرق الأوسط وبمشاركة الفاعلين الإقليميين وغير الإقليميين المذكورين أعلاه، أول الواجبات هو التوصل إلى تسوية للقضية الفلسطينية تكفل للشعب الفلسطيني الحماية والبقاء، بعد ما تعرض له من تعمد الإبادة، وممارسة حق تقرير المصير. التشديد على هذه التسوية ليس لغوا. بدون هذه التسوية ستبقى القضية الفلسطينية مصدرا للاضطراب وعدم الاستقرار. فرض ترتيبات بالقوة أو بالتحايل على الشعب الفلسطينى ليس التسوية المقصودة، وهو نقيض لمصلحة الإقليم ودوله. تنظيم العلاقات بين دول الإقليم العربية وغير العربية والتعاون بينها مهمة أخرى للفاعلين المعنيين بالشرق الأوسط. والقدرات النووية السلمية والعسكرية لإيران ولإسرائيل ليست موضوعا يهمهما وحدهما ومعهما الدول الكبرى. هذا موضوع للشرق الأوسط برمته. إن تصرفت إسرائيل على أنها منتصرة فإنه لا أمان ولا استقرار لها ولا للإقليم. يبدو تنظيم العلاقات فى الشرق الأوسط محتاجا إلى مؤتمر شبيه بمؤتمر الأمن والتعاون فى أوروبا المنعقد فى هلسنكى فى سنة 1975. يمكن دعوة فاعلين إضافيين مثل الصين والاتحاد الإفريقى لحضور المؤتمر، وإلا فتعرض مخرجاته على الجمعية العامة للأمم التحدة ليعتمدها ممثلو المجتمع الدولى.
قد تكمن فى مأساة غزة ولبنان وفى التغيير فى سوريا فرص للخلاص. لعل الفاعلين فى الإقليم وخارجه يغتنمونها حتى يجنبوه المزيد من الالتهاب.
د/ إبراهيم عوض
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
عضو مجلس أمناء الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي
الرابط الأصلي للمقال: https://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=04012025&id=62bc6783-8630-4f65-b37c-39417c605ae2&fbclid=IwY2xjawHp3GtleHRuA2FlbQIxMQABHQYwjLvV-oegYh8UV4F0ekhbi7twuQotD9bl0aGLdn--44Zk5Z2ltwp3cw_aem_0SBPvZYUaBunEompji_yDA
كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي
تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.