مقالات

  11-06-2025

دقت ساعة التنسيق الانتخابي

القوى الديمقراطية المصرية كانت تتعامل تاريخيًا مع الانتخابات البرلمانية على أنها فرصة للتواصل مع المواطنين، وتقديم برامج وأفكار، وتقديم شخصيات تعبّر عنها، غير أن رؤيتها اختلفت واهتمت أكثر بشكل الانتخابات ودورها منذ 2005، وهي الآن في حاجة ملحّة لإدارة تنسيق انتخابي وحوار فيما بينها.

لقد حاولتُ بقدر الإمكان في هذه السلسلة من المقالات أن أُسهم في تذكير نفسي والقارئ من القوى الديمقراطية ببعض ما يمكن أن نجري به حوارًا عن الانتخابات البرلمانية القادمة.

ورغم أنني من ناحيتي لم أرَ في حياتي أن الانتخابات المصرية آلية للتداول السلمي للسلطة، فإن سمعة جولات الاقتراع النيابي في الحرية والنزاهة منذ مارس 1954 سيئة، وتختلف درجات النزاهة فيها من انتخابات لأخرى.

إن بعض القوى تربط بين شرعية الحكم والمشاركة في الانتخابات، وكأن شرعية الحكم في مصر تُحدَّد عبر الانتخابات، أو أن السلطة والمواطنَين ينتظران صك الشرعية من قوى مأزومة في الأصل.

إننا في أوضاع سيئة للغاية تتعلق بالمجال العام والسياسي، تحتاج فيها القوى الديمقراطية إلى المشاركة، وهي في حاجة إلى إقناع السلطة بضرورة التفاوض حول العملية السياسية وتحسين شروطها، وهي أيضًا في حاجة إلى حوار بين فصائلها.

يجب على الجميع في هذه اللحظة أن يقرأ المشهد السياسي جيدًا، في ظل أزمة دولية وإقليمية بفرض هيمنة إسرائيلية على المنطقة، بتحالف مع بعض دول الخليج، وتغييرات جوهرية في لبنان وسوريا، واستبدال دور إيران بدور تركي، وهدايا ومكافآت للرئيس الأمريكي دونالد ترمب، بعد جولة تجاوزت فنتازيا الأستاذ رأفت الميهي، وعملية إبادة جماعية وتهجير وعدوان على شعبنا الفلسطيني.

يأتي ذلك في ظل ضغوط على الإدارة المصرية لقبول مشروع التهجير أو لعب دور شرطي لإسرائيل في غزة، وهو ما رفضته مصر، وكان الموقف الرسمي المصري جيدًا جدًا. ضِفْ إلى ذلك انهيار الوضع السوداني والليبي، والأزمة الاقتصادية المرعبة، ما جعل السلطات المصرية لا تهتم بأي مطالبات للحوار الوطني، وتهمل مخرجاته، فيما توقفت عملية الإفراج عن المحبوسين، وتم تعديل قانون الإجراءات الجنائية، واستدعاء نشطاء للنيابة، ومضايقة حقوقيين أثناء السفر، والقبض على صحفيين، بجانب أمور أخرى، أصبح السرد فيها مملًّا.

مؤشرات سلبية

في ظل ذلك الوضع، نظر مجلس النواب قانون تقسيم الدوائر بتعديلات طفيفة، فيما استمر قانون الانتخابات كما هو (قائمة مطلقة، ونظام فردي)، ما أضعف أي صوت نادى بالانفتاح على الحوار مع السلطة أو المشاركة في العملية الانتخابية، فما جرى هو بمثابة عملية حرق وإهانة لأصوات دعت إلى التعقّل والحوار، وبالتأكيد قد يؤدي ذلك إلى عزوف عن المشاركة في العملية الانتخابية.

لا يستطيع أحد أن يقول إن المواطنين في مصر يهتمون أو يعرفون أننا أمام انتخابات قادمة خلال شهور فقط، لكن أي أحد يستطيع أن يؤكد أن السلطة تجاهلت بيانات الحركة المدنية، ومواقف تحالف الطريق الديمقراطي الذين رفضوا تلك التشريعات والمناخ الذي تُجرى فيه الانتخابات، بل وصَدَرت التصريحات من زعيم الأغلبية ونوابه، والوزير محمود فوزي، بأن المعارضة مقصّرة لأنها لم تقدم مشروعات قوانين، وأن الحوار الوطني لم يشهد توافقًا على مشروعات قوانين.

الرسالة واضحة: فلن يهم السلطة ذلك الرفض، ولن تنزعج من المشاركة أو مقاطعة المعارضة بكل ألوانها، ولا تهتم أصلًا بمستقبل ذلك، لأنها لا تهتم بأن يكون هناك سياسة من الأساس. ولا أعلم إن كان هناك من يعي خطورة ذلك على السلطة نفسها، فعندما يصل اليأس إلى أصوات إصلاحية، فماذا تنتظر؟ وماذا تريد من إغلاق سبل التغيير أمام أصوات الإصلاح؟

معوقات المشاركة

دعكم من هذا كله. سنشارك. ولكن، هل المشاركة في العملية الانتخابية سهلة؟

هناك معوقات كثيرة، تتعلق بالتضييق على الحريات العامة، وحرمان القوى السياسية من التواصل مع المواطنين، وحرمانها من الظهور في وسائل الإعلام، وحرمان عدد كبير من كوادر وأحزاب القوى الديمقراطية من الترشح أو المشاركة في دعم مرشحيهم، إما لحبس عدد من كوادرها، أو حرمان من خرج من السجون نتيجة وضعه على قوائم الإرهاب، أو لعدم شعور كوادر أخرى بالأمان.

ما هي الضمانات ألا تتكرر قضية الأمل؟

ضِف إلى ذلك المعوقات الاقتصادية، وعدم قدرة مرشحي المعارضة على خوض الانتخابات في ظل ضعف إمكانيات أحزابهم.

النظام الانتخابي 

أعود إلى النظام الانتخابي، والذي أعتبره أُمَّ المعوقات في الانتخابات الوشيكة.

والحقيقة أني أتعجب من مجرد مناقشة النظام الانتخابي في مصر، في ظل كل ما يحدث.

وصفُ أن هناك نظامًا انتخابيًا سيئًا وآخر جيدًا، يجعلنا كأننا نختار أكلةً ظريفة، أو بدلةً أو فستانًا.

لقد عرف العالم عددًا من الأنظمة الانتخابية، كي تختار المجتمعات ما يناسبها، والمناسب هو ما يُنتِج برلمانًا تشعر فيه طبقات المجتمع، وقواه السياسية، والأقليات، والنساء بالتمثيل. وهذه بديهيات في أي نظام انتخابي.

هل تتذكرون فترة الحوار الوطني الذي من المفترض أنه تم إطلاقه لبدء إصلاح سياسي؟

كان من المفترض أن يبدأ الإصلاح السياسي بإصلاح البيئة، عبر الإفراج عن المحبوسين، وبالفعل بدأت عملية إفراجات ثم توقفت.

كان من المفترض إصلاح التشريعات المنظمة للانتخابات، حتى تشعر القوى السياسية أنها ممثلة تمثيلًا حقيقيًا، ولكن صمّمت الأغلبية التي حضرت الحوار ــ للمفارقة ــ على إهمال قراراته، بل وخرجت تقول: "النظام الانتخابي عظيم، الأحزاب ضعيفة، هناك شبهة عدم دستورية، الآراء لم تصل لإجماع"، وهذه تصريحات غير حقيقية.

هناك أسئلة يجب أن نتوقف عندها بصراحة، وهي: لو أن البرلمان الحالي جيد، فما هي الحاجة أصلًا لحوار وطني؟ إذا كان هناك شعورٌ أنه يمثل القوى السياسية، وإن كانت الأحزاب ضعيفة، فهل الحلّ معايرتها؟ أم وضع تشريعات وقرارات إدارية لمساعدتها؟

الحقيقة أن هذا البرلمان تُشعر القوى السياسية وطبقاتٌ في المجتمع بعدم التمثيل فيه.

القائمة المطلقة

بوضوح، إن نظام القائمة المطلقة هو أسوأ أنواع النظم الانتخابية.

الحقيقة أن هذه البلاد، التي عرفت المجالس النيابية منذ القرن التاسع عشر، قبل إنشاء دول في المنطقة أو معرفة دول في العالم للتمثيل النيابي، تستحق نظامًا أفضل من هذا.

لقد قتل ذلك النظام الحياة السياسية وأفسدها، وجعل الدخول إلى البرلمان كالتعيين سواء، وأصبح ما يشغل أعضاء أحزاب الموالاة والمعارضة ــ التي دخلت البرلمان من خلاله ــ هو نيل رضا قيادات الأحزاب في العاصمة، ومن يشاركها في هندسة القوائم، دون أن تنشغل بالاشتباك في دوائرها أو ممارسة العمل السياسي.

هناك شباب لم تتخطَّ أعمارهم الأربعين عامًا، تفرغوا فقط لذلك، دون أن يستلهموا تجارب عظيمة سابقة لنواب خاضوا معارك كبيرة منذ سبعينيات القرن الماضي، سعيًا للتواصل مع قواعدهم والمشاركة في الانتخابات، والوصول إلى البرلمان بعد جولات متكررة، لم يوفقوا فيها، إما بسبب التزوير أو لنقص الخبرة. وقد ذكرتُ نماذج عديدة في مقالات سابقة.

اللافت للنظر أن هذا النظام الانتخابي القاتل، لم يؤثّر على أحزاب المعارضة بقدر ما أثّر بشكل أكبر على جمهور أحزاب الموالاة، في ظل عزوف تلك القوى عن المشاركة، بعدما باتت ترى أن النتائج محسومة سلفًا، ولا تعتمد على جمهورها. وهكذا، فإن القواعد التقليدية والطبيعية في المحافظات، التي اعتادت التعامل مع البرلمان منذ ما قبل مارس 1954، وبعد عودة الانتخابات في السبعينيات، وكانت تؤمن بأهمية الاشتباك مع الدوائر وتقديم الخدمات – حتى وإن لم يكن ذلك عبر حزب الأغلبية – لم تعد تمارس هذا الدور. ويؤدي غياب مشاركتها وعجزها عن جذب المواطنين إلى تكريس الفراغ، والعنف، واللامبالاة.

النظام الفردي

أما عن النظام الفردي، فتقسيم الدوائر، وكِبَر مساحتها، والتصميم على الإعادة في حالة عدم حصول المرشح على 50% +1، يؤدي إلى غياب تمثيل السيدات، والمسيحيين، والشباب، والطبقة المتوسطة، والفقراء.

والحقيقة أن دستور 2014 أفرط في منح الفئات المُـمَكَّنة من التمثيل في البرلمان، وكان الغرض هو محاولة الحشد للتصويت على دستور 2014.

لا توجد كوتة دائمة، وبنِسَب كبيرة مثل المعتمدة في التشريعات الحالية، وهو بالتأكيد ما يجعل تمثيلها صعبًا حسابيًا في النظام الانتخابي خارج القائمة المطلقة.

الحل الذي تم تجاهله

كان لدينا الحل لكلّ المشاكل والمعوّقات والتحديات التي تحدّثتُ عنها.

كان يمكن اعتماد النظم الانتخابية الثلاثة: القائمة المطلقة للفئات المُـمَكَّنة فقط، والقائمة النسبية، والنظام الفردي. وقد قُدِّمت اقتراحات في الحوار الوطني، ولكن عدم اهتمام السلطة، وشعورها بعدم أهمية استمرار الحوار، وانشغال القوى الديمقراطية بعدم الضغط الكافي والتنسيق الجيد بينها، هو ما أوصلنا إلى ما نحن فيه.

مع الأسف، كان الاهتمام فقط بالتأكيد على إدانة من يترشّح على القائمة المطلقة مسبقًا، والحساب على من أخطأ أو أصاب في الحوار الوطني، على الرغم من مشاركة الجميع أصلًا، أو الموقف من الانتخابات الرئاسية، بجانب تصرّفات غير مسؤولة، مع خضوع للابتزاز، وأمور لا يليق وصفها بعبارات تليق بمواقف البعض.

بالقطع، إنّ مسؤولية السلطة أكبر، لأنها هي من تحكم، وهي من دعت إلى الحوار.

إن كان هناك من يُعَيِّر دعاة الإصلاح التدريجي من المعارضة، ويحتفل بانتصار أصوات عدمية، أو تتصوّر أن التغيير يتم عبر الهتاف على السوشيال ميديا، فلن تستطيع الأصوات الداعية للإصلاح أن تدعو أحدًا إلى السير في طريقها، لأن النتائج لم تكن مبشّرة.

أظن، وليس كل الظن إثمًا، أنه كان هناك إذلالٌ متعمَّد لأصوات الإصلاح التدريجي في مصر خلال الفترات الماضية.

لا بد من التنسيق

على كلّ الأحوال، وقعت الواقعة.

يجب أن تحاول القوى الديمقراطية التنسيق فيما بينها، أقول: مجرد تنسيق، لا تحالف، فطبيعة المنظمات السياسية مختلفة.

أدعوهم إلى دعم كلّ ما تراه المعارضة صالحًا لخوض المعارك الفردية.

علينا جميعًا، في هذه اللحظة، أن نغادر — ولو لفترة قصيرة — مقاعد إثبات كلّ طرف من هو الأشجع، ومن الأقوى، ومن الأنجح.

نحن في أزمةٍ أكبر بكثير من تصوّرات غير مسؤولة.

انتهت هذه السلسلة من المقالات، وما زال للحديث بقية، إن كان للعقلاء بقية.

أحمد فوزي

عضو الهيئة العليا للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي

نشر بموقع فكر تاني يوم 11يونيو 2025

كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي

تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.