مقالات

  12-09-2024

اللاجئون: التزامات مصر ومصلحتها الوطنية

المراقبون الحريصون على مكانة مصر يداخلهم انزعاج شديد من الأصوات التى تعلو لمهاجمة اللاجئين الذين لاذوا بمصر، اطمئنانا لها وثقة بها، يطلبون حمايتها لهم من اضطهاد يتعرض كل منهم له شخصيا، أو هربا من انهيار النظام العام فى بلدانهم. هذه الأصوات ذهب بعضها إلى نسبة كافة مشاكل مصر لللاجئين، وإلى اتهامهم بأنهم يخدمون مصالح أجنبية، ووصل بعضها الآخر إلى المطالبة بترحيلهم.
إيواء اللاجئين ليس خيارا تقبل به أو لا تقبل هذه الدولة أو تلك. إذا صرفنا النظر عن القانون الدولى العرفى الذى يقضى بدون أى نصوص تعاقدية بألا تبعد أى دولة أى شخص يطلب الحماية فى إقليمها، فإن اتفاقية وضع اللاجئين لسنة 1951 تلزم الدول الأطراف فيها صراحةً بإيواء اللاجئين وعدم إبعادهم عن أراضيها التى طلبوا الحماية فيها. اللاجئ فى الاتفاقية هو «كل شخص يوجد خارج بلده، أو بلد إقامته، وبسبب خوف له ما يبرره من التعرض للاضطهاد بسبب عرقه أو دينه أو جنسيته أو انتمائه إلى فئة اجتماعية معينة أو آرائه السياسية، ولا يستطيع، أو لا يريد بسبب ذلك الخوف، أن يتمتع بحماية بلده». مصر صدقت على الاتفاقية وهى طرف فيها منذ سنة 1981. ومصر كانت واحدة من خمس وعشرين دولة فقط تفاوضت على الاتفاقية فى النصف الأول من سنة 1951 وإن لم تصبح طرفا فيها إلا بعد ذلك بثلاثين عاما. اتفاقية منظمة الوحدة الإفريقية التى تحكم الأوجه الخاصة بمشكلات اللاجئين فى إفريقيا المعتمدة فى سنة 1969 توسع من تعريف اللاجئ ليشمل، بالإضافة إلى الشروط الواردة فى اتفاقية سنة 1951، ذلك الشخص الذى يضطر إلى مغادرة بلده لأسباب تتعلق بالعدوان الخارجى، أو الاحتلال، أو السيطرة الأجنبية، أو بأحداث تُخِلُّ خللا شديدا بالنظام العام فى بلده كلها أو فى جزء منها. واضح فى هذا التعريف تأثر القانون الدولى بظروف مناطق العالم المختلفة وتاريخ كل منها. مصر انضمت إلى الاتفاقية الإفريقية فى سنة 1980 بإيداع وثيقة التصديق عليها. الادعاء بالاضطهاد أو بالأسباب الإضافية الواردة فى الاتفاقية الإفريقية لا يؤدى تلقائيا إلى إضفاء وضع اللاجئ على من يطلبه. طالب اللجوء يمرّ بعملية «تحديد وضع اللجوء للتحقق من سلامة الأسباب التى استند إليها فى تقديم طلبه. ليس كل طالب للجوء يحصل على وضع اللاجئ. مصر أوكلت إجراء عمليات «تحديد وضع اللجوء» لمفوضية الأمم المتحدة السامية للاجئين بمقتضى مذكرة تفاهم بينهما وقعاها فى سنة 1954.
• • •
قد يقول قائل وما لنا وما للقانون الدولى. هل تحترم الدول كلها القانون الدولى؟ كم من الدول لا يحترمها. ليس من شيم مصر عدم احترام القانون الدولى ولا هو من مصلحتها. مصر دولة معروف عنها احترامها لالتزاماتها الدولية الموضوعية، وحتى الإجرائية منها مثل تسديدها لأنصبتها فى ميزانيات المنظمات الدولية فى مواعيدها المحددة. السمعة عامل أساسى للتحرك فى النظام الدولى وللاستفادة من الفرص التى يتيحها. مصر فى حاجة إلى النظام الدولى اقتصاديا وسياسيا، مثلها مثل كل الدول الأعضاء فى النظام الدولى، والتى تزداد حاجتها إليه كلما كانت من الدول متوسطة القوة، مثل مصر، أو قليلتها. صحيح أن ثمة دولا تضرب عرض الحائط بقواعد القانون الدولى وتستهين بها، ونحن نعرف الشىء الكثير عنها فى منطقتنا، وليست غزة إلا شاهدة على ذلك. غير أن إسرائيل فى ممارستها للعنف، وفى تماديها فى تحدى القانون الدولى، حالة شبه فريدة ترجع إلى أن الولايات المتحدة توظف كل قوتها لخدمتها وحمايتها. ولكن، على كل حال، أى دولة هذه، فى أى مكان، ترغب فى أن تُقارَنَ بإسرائيل التى انحطت سمعتها فى النظام الدولى؟! السمعة فى النظام الدولى ضرورية لمصر لكى تحصل على الإغاثة التى يحتاجها اقتصادها فى أزمته الممتدة الحالية، مثلا، فضلا عن ضرورات عملية التنمية الشاملة التى تحتاج إلى معاونة المجتمع الدولى على تحقيقها.
غير أن إيواء طالبى اللجوء واللاجئين، وحمايتهم، وتمكينهم من أن يعيشوا حياة كريمة إلى حين يجدون حلولاً دائمة لابتعادهم عن بلدانهم، على أهمية احترام القانون الدولى الذى اختارت مصر طوعا الالتزام باتفاقياته، لا يشكلون مسألة قانونية فقط. المسألة سياسية أيضا. مصر دولة كبيرة فى محيطها الإفريقى، كما هى كبيرة فى محيطها العربى. الدولة الكبيرة عليها مسئوليات، واضطلاعها بهذه المسئوليات هو ما يجعل منها دولة كبيرة لها أن تطالب بتأييد مطالبها وتلبية مصالحها. الأغلبية الساحقة من طالبى اللجوء واللاجئين فى مصر من البلدان المتاخمة والمجاورة لنا فى شرق قارتنا الإفريقية وقرنها، فضلاً عن سوريا واليمن. لمصر مصالح مؤكدة فى شرق القارة والقرن الإفريقى، أولها تسوية مسألة سد النهضة لتأمين مرور مياه النيل إليها. مفهوم أن اتخاذ القرار بشأن سد النهضة أو غيره لا يتخذه اللاجئون وطالبو اللجوء، ولكنهم والشعوب التى ينتمون إليها يدخلون فى تشكيل الرأى العام الإفريقى الموجود فى بيئة اتخاذ القرار. الأصوات المناوئة للاجئين، التى يغذى بعضها خطابا للكراهية، ويشتم من بعضها الآخر رائحة عنصرية، تظن أنها تخدم مصلحة مصر وهى فى حقيقة الأمر تقوضها.
• • •
الأسفُ مشدّدٌ عندما تنال الأصوات المذكورة من اللاجئين وطالبى اللجوء والنازحين من السودانيين، خاصةً أولئك الذين استجاروا بمصر منذ منتصف شهر إبريل من العام الماضى عندما اندلعت الحرب الأهلية فى بلدهم. السودان أقرب البلدان إلى مصر جغرافيا، وتاريخيا، وسياسيا، وثقافيا، ووجدانيا. السودانيون الذين لجأوا إلى مصر اختاروها لقربهم المعنوى منها. هل نسى من يتحرشون بالسودانيين الذين استعاذوا بمصر أن السودان ومصر كانتا بلدا واحدا حتى أقل من سبعين سنة مضت، وأنه كان فى السودان اتجاه اتحادى قوى بقى أعضاؤه على مودتهم لمصر حتى بعد أن اختار السودانيون الاستقلال، واستقلت السودان فى سنة 1956؟ هل يريد المتحرشون بالسودانيين أن يضيِّعوا على مصر السند لها والمعين على تحقيق مصالحها فى السودان وفى منابع النيل؟
الشكوى تثور فى أحيان عديدة من أن اللاجئين يصلون معدمين إلى بلد الملجأ فيشكلون عبئا عليها، تتحمل هى تكلفته من ماليتها أو من المعونة الدولية التى تصلها أو من كليهما معا. لم تجر أى دراسة ميدانية للذين وصلوا إلى مصر منذ إبريل 2023، وهو شىء مدهش فى حد ذاته، إلا أن الشواهد تشير إلى أن جانبا يعتد به من هؤلاء السودانيين، والسودانيات، من حملة الشهادات العليا والمتوسطة، الذين جاءوا بمدخرات ذات وزن. بيان على سلامة هذه الشواهد شكوى مناقضة للمذكورة أعلاه من ارتفاع الإيجارات وأسعار السلع فى بعض التجمعات السكنية الراقية فى القاهرة الكبرى نتيجة لطلب أسر سودانية عليها. لاحظ الشكوى ممن يعدمون المال وممن يتوفر لهم! الدراسة الميدانية للسودانيين الموجودين فى مصر ضرورية لمعرفة المسجل منهم لدى المفوضية السامية للاجئين كطالبى لجوء وغير المسجلين، ولتبين خصائصهم الديموغرافية، من جنس وسن وحالة اجتماعية، وخصائصهم الاقتصادية والاجتماعية من مستوى تعليمى، ومستوى دخل، وسابق انخراط فى سوق العمل، وغيرها. الهدف من جمع البيانات ثم من تحليلها هو أن تكون الأساس الذى تصاغ على أساسه السياسات الكفؤة التى تكفل للدولة، أى دولة، التخصيص الأمثل للموارد. فى حالتنا هذه واحد من الأهداف هو تحديد متطلبات حماية السودانيين وتمكينهم من تلبية احتياجاتهم المعيشية، وكذلك تبين كيفية الاستفادة من إمكانياتهم. فى وقت يهاجر الأطباء المصريون بأعداد كبيرة للعمل فى الخارج، ألا يمكن الاستعانة بالأطباء من السودانيين لسد العجز الكلى فى الأطباء، أو العجز فى بعض التخصصات، وبالتالى توفير الخدمة الطبية للمواطنين المصريين؟ الشىء نفسه ينسحب على أخصائيى التكنولوجيات الرقمية التى ارتفعت وتيرة هجرتهم. وألا يمكن أيضا فتح قنوات لتوظيف المدخرات التى جاء بها عدد من السودانيين فى الاقتصاد المصرى؟ ما ينطبق على السودانيين ينطبق بالطبع على طالبى اللجوء واللاجئين من السوريين والفلسطينيين واليمنيين ومواطنى الدول الإفريقية. أما الانخراط فى سوق العمل فهو يدرّ على اللاجئين دخولا تعينهم على تلبية احتياجاتهم واحتياجات أسرهم فلا يحتاجون إلى معونة مادية.
• • •
التعرف على احتياجات اللاجئين يفيد كذلك فى تحديد تكلفة تلبيتها. مصر تمنح منذ سنة 2006، بمقتضى قرار وزارى، حق الاستفادة من خدمات الصحة العامة، من مستشفيات وعيادات حكومية، لكل اللاجئين والمهاجرين الموجودين فيها. القانون المصرى يسمح للسودانيين والليبيين والأردنيين بالالتحاق بالمدارس الحكومية من الابتدائية حتى الثانوية. قرار إدارى لوزارة التربية والتعليم يسمح بنفس الالتحاق وبمعاملتهم معاملة المصريين من حيث الرسوم للتلميذات والتلاميذ السوريين واليمنيين. غير أنه معروف للكافة أن البنية الأساسية الصحية والتعليمية فى مصر عاجزة عن توفير خدمات ذات مستوى مقبول للمصريين أنفسهم. قانونيا وإداريا، يمكن إذن من حيث المبدأ تلبية الطلب على خدمات التعليم والصحة الصادر من مجموعات اللاجئين، غير أنه فى واقع الأمر لن تستطيع الدولة تلبية أغلب هذا الطلب لعجز ماليتها العامة عن تمويلها. للحصول على التمويل الضرورى يمكن العمل مع المجتمع الدولى ليشترك فى تحمل المسئولية عن إيواء اللاجئين وفقا للفقرة 32 فى الإطار الشامل للاستجابة للاجئين، وهو جزء من الميثاق العالمى بشأن اللاجئين الصادر فى سنة 2018، التى تنص على توفير الموارد للبلاد التى تأوى تدفقات واسعة النطاق من اللاجئين.
غير أنه عند العمل مع المجتمع الدولى ليشترك فى تحمل المسئولية، يجب أن يكون هذا العمل جادا وأن يبتعد عن المبالغة فى تقدير عدد اللاجئين. الأرقام المتداولة عن عدد اللاجئين فى مصر لا أساس إحصائى لها. الرقم الموثوق به الوحيد هو عدد المسجلين فى المفوضية السامية للاجئين، وهم قد تعدوا حاليا السبعمائة ألف منهم 420 ألف سودانى من بينهم 345 ألفا وصلوا منذ إبريل 2023. يوجد فوق الثلاثمائة ألف سودانى حددت لهم المفوضية مواعيد ليسجلوا أنفسهم كطالبى لجوء مما يصل برقم اللاجئين وطالبى اللجوء المعروفين للمفوضية إلى ما فوق المليون. السوريون هم المجموعة الوطنية الثانية للاجئين المسجلين ويصل عددهم إلى 160 ألفا. بالضرورة توجد أعداد أخرى من اللاجئين والمهاجرين. إلا أن غير المسجلين لا يحتاجون إلى المعونة وهم قد يرسلون أبناءهم وبناتهم إلى مدارس خاصة، وفى الغالب سيلجأون إلى مرافق الطب الخاصة أيضا، وبمدخراتهم أو الأجور عن عمل كل منهم سيلبون احتياجاتهم المعيشية. المبالغة فى الأعداد تفقد المصداقية وتؤثر فى السمعة الدولية، ولمصر، تاريخيا، سمعة ناصعة يجب الحفاظ عليها.

د/ إبراهيم عوض

أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

عضو مجلس أمناء الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي

الرابط الأصلي للمقال:

https://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=20072024&id=70f3e1f0-74a0-429a-8135-e0d7cb56668b&fbclid=IwY2xjawFP85lleHRuA2FlbQIxMQABHfpxPz6WkTAnx3dSkGes548Cfvzs2vbfNUwWN-7eGo_5D1BPCvJXEXYKkA_aem_KGwloKYBd7hX3f3JNyFf7Q

كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي

تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.