03-05-2025
التسريب الصوتي بين الرئيس عبد الناصر والقذافي، الذي انتشر مؤخرًا، يعكس نقطة تحول مهمة في مسار تفكير عبد الناصر بعد نكسة 67. لكن التسريب هذا لا يمثل مفاجأة جديدة بقدر ما هو استمرار لتطور كان قد بدأ بالفعل، وكان واضحًا في محاضر اجتماعاته الخاصة، وفي خطاباته المتلفزة بعد 1967.
تسريب القذافي يظهر أن عبد الناصر كان يدرك منذ تلك الفترة أن الهزيمة العسكرية الكبرى فرضت عليه إدراكًا جديدًا للواقع. مع اعترافه بذلك، تحولت خطاباته وأفكاره تدريجيًا، وأصبح منفتحًا على التسويات السياسية والتفاوض مع أمريكا وقبول مبادرة روجرز، رغم العواطف الجياشة تجاه قضية استرداد الأرض والكرامة والانتصار لفلسطين والأمن القومي العربي.
لكن في التسريب الصوتي، يظهر بشكل واضح “ضجر” و”زهق” عبد الناصر من “المزايدات” التي أصبحت بشكل كبير ضجيج بلا طحين، لاسيما من الدول التي أبدت تضامنًا وتعاطفًا مع مصر بعد مؤتمر الخرطوم وغيرها من المناسبات، دون استعداد حقيقي لأي مواجهة. وهذا جزء من الحقيقة، ولكن من المهم أن نقرأه في إطار سياق كامل وليس مقطوع.
فلولا بعض القرارات المتسرعة التي اتخذها عبد الناصر، مثل إغلاق مضيق تيران دون استعداد كافٍ، وطرد قوات الطوارئ الدولية من سيناء بشكل مفاجئ، والإعلان المتسرع عن مشاريع عسكرية لم تكتمل مثل صواريخ “القاهر” و”الظافر”، والتي تم إجهاضها لاحقًا نتيجة ذلك الاستعراض، لما كانت الأمور قد تطورت كما حدث. كما أن الخطاب الاستعراضي والتعبوي الذي تصاعد ضد إسرائيل قبل الحرب كان مجرد تفاعل وردًا على مزايدات في الإعلام السوري والعراقي.
هذه القرارات، رغم النوايا الطيبة، أسهمت في حدوث واحدة من أكبر الهزائم - بل الأكبر - في تاريخ مصر والعالم العربي الحديث والتي لازلنا نحصد منيجتها لليوم. والتسريب الصوتي الحالي لا يبرء عبد الناصر، بل يكشف عن جانب عميق آخر من الأزمة: فالزعيم كان لديه الوعي الكافي لإدراك الخطر، لكنه لم يتخذ الخطوات اللازمة لمصارحة الشعب بحقيقة الموقف والتعامل مع تداعيات أفعاله بمسؤولية !
عبد الناصر كان صاحب الشخصية الكاريزمية والمشروع العربي الأضخم بلا جدال، لكنه في الوقت نفسه كان صاحب القرارات المتسرعة غير المدروسة. جماهيرية عبدالناصر التي تفجرت عربيًا مع مواجهة العدوان الثلاثي، والانتصار السياسي الذي تحقق عبر بسالة المقاومة الشعبية والدعم السياسي من السوفييت والأمريكان، دفع عبدالناصر لإدراك أن الجيش المصري بحاجة ماسة للاحترافية ولإعادة التأهيل، ومذكرات ولقاءات الفريق فوزي والفريق الشاذلي، وغيرهم من القادة، تحكي الكثير عن حجم التغيير والاحترافية والمهنية التي كانت بحاجة لإنقاذ وتحديث بعيدًا عن فخ الانتصار السياسي الذي تحقق بعد مواجهة العدوان، ولكن رغم إدراك عبد الناصر لذلك، إلا أن الإجراءات اللازمة والضرورية لم تُتخذ إلا بعد وقوع الكارثة لأسباب مختلفة، وهو ما جعل النظام يظل مغلقًا على نفسه وغارقًا في المزيد من الأخطاء السياسية.
حرب اليمن والوحدة المبتورة مع سوريا وآلامها وغيرها من الملفات كانت بمثابة إنذارات متتالية لم يستجب لها الزعيم سوى بعد النكسة. ورغم ما حدث من إجراءات على مستوى الجيش، واستعداد مهني حقيقي لحرب الاستنزاف رغم الصعوبة الشديدة للحرب وكلفتها، ورغم التضامن والالتحام الشعبي الكبير مع الجيش، إلا أن النظام السياسي ظل بعيدًا عن التغيير الفعلي والجوهري في أمور كثيرة على رأسها الديمقراطية وحكم المؤسسات.
وحتى مع تراجع الخطاب القوي والاستعراضي بعد النكسة، بسبب إدراك فداحة الهزيمة، وبسبب خروج مظاهرات غاضبة بعد أشهر قليلة من عودة الرئيس لموقعه في فبراير 68، وبداية ظهور بيان مارس ومحاولات الوعد بالديمقراطية، إلا أن النهج السلطوي عاد شرسًا ومتراجعًا عن مساحات الانتقاد حتى الانتقاد الداخلي ومصارحة النفس التي كانت قد بدت في أروقة قمة هرم السلطة، وهو ما دفع بقوة خروج عبارة “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، كمناعة ذاتية لأي محاولة تغيير سياسي وربطها مشروطة بإزالة آثار العدوان.
الزعيم عبدالناصر الذي ضاق صدره بعنتريات التقدميين، هو نفسه الذي ضاق صدره في محاضر اجتماعات موثقة من انتفاضات ومظاهرات الطلاب، وانتقد سياسته في التعيين للخريجين وانتقد أخطاء عديدة ارتكبها نظامه - حملها للآخرين -، بل وحتى أعلن ضيقه من فكرة انه الطلاب والشباب يخرجو في مظاهرات، الرئيس نفسه كان طالب وبيخرج في مظاهرات ضد الملك وحزب الوفد، هو نفسه انتقد الفكرة وقال كنت بنزل في مظاهرات فعلًا بس "مكنتش رزل" زي طلبة اليومين دول.
على كلِ هذه المقدمة ليست بغرض نكأ جراح عبدالناصر والهجوم عليه، بل محاولة لفهم هذا التغيير الذي يتصور البعض أنه مفاجئ وصادم بينما هو في الحقيقة ابن سياق سياسي داخلي وخارجي مهم إدراكه للغاية.
والأهم من هذا كله في رأيي، أن خروج هذا التسجيل المسرب واستخدامه على نطاق واسع اليوم كمبرر للتخاذل عن نصرة القضية الفلسطينية، أو كتبرير لخيارات التطبيع غير المشروطة، هو خطأ فادح. السياسة لا تختزل بين الاستعراضات العسكرية والعنتريات أو الخيانة والتطبيع الكامل، بل فيها:
أدوات دبلوماسية،
قضاء دولي، كما فعلت جنوب أفريقيا مثلًا،
حملات مقاطعة شعبية،
استثمار المجتمع الدولي كوسيلة ضغط قانونية وأخلاقية.
ففكرة استثماره في إطار خطاب “احنا مش عاوزين نحارب”، محدش طلب نحارب، ومصر بالفعل بتقوم حاليًا بدور أخلاقي مهم ومنفرد في الوضع العربي الحالي في ملف التهجير وفي مجمل مسار حرب غزة، من عدم الذكاء أبدًا ربطه بهذا الخطاب اللي بيكرره البعض ليل نهار، “ملناش دعوة” مصر للمصريين، احنا مش فلسطين، وغيره من كلام أجوف لا يفهم اختلاف السياق والوضع، ولا يعي خطورة التمدد الوحشي لإسرائيل على حساب الآخرين، ففي النهاية العدو سيبقى عدو مهما حاول البعض التوهم بغير ذلك.
عمومًا نقدي لعبد الناصر ليس شماتة ولا كراهية لشخصه؛ بل محاولة قراءة موضوعية لشخصية كاريزمية صنعت تحولات ضخمة في المنطقة العربية، لكنها أهدرت فرصة ذهبية لصناعة نهضة عربية حقيقية. كان بوسعه، بما امتلكه من شرعية جماهيرية، أن يؤسس مشروعًا ديمقراطيًا وتنمويًا حقيقيًا، يستثمر عائدات الثروات العربية في تصنيع وتكامل اقتصادي بدلاً من الانقسامات العقيمة بين محاور الرجعية والتقدمية والمغامرات العسكرية الطائشة، والوحدة الاندماجية غير المحسوبة، وتفتيت القرار العربي الذي أصبح أسير لمغامرات شيوعيين وقوميين صغار من تلامذة الزعيم عبدالناصر، أو أنظمة أخرى لم تختلف مواقفها اليوم عن مواقفها بالأمس، لأنها تفتقد لمقومات الدولة الطبيعية، وفي النهاية هذه نتيجة سياسة الزعيم ومشروعه القومي، وليست شيء دخيل عليه، أنت من نصبت نفسك يا سيدي زعيمًا للعرب، ومحررًا لفلسطين، ومؤسس المقاومة، ومحرر الشعوب، ومن سيلقي بإسرائيل في البحر، أليس لكل هذا ثمن ؟ أم أن ما حصدته من شعبية وجماهيرية كانت بالمجان دون مقابل ؟ أم أن الزعامة والقيادة هي غناء الجماهير للزعيم فقط دون أن يتحمل مسؤوليتها ؟!
"التاريخ لا يُحكى من خلال مقاطع مجتزأة، بل من خلال قراءة عميقة لمسارات الأحداث، لما حدث وما كان يمكن أن يحدث".
ومن زاوية أخرى، إن فتح الأرشيفات التاريخية المصرية المتعلقة بتلك الفترة الحساسة، مثل نكسة 67 وحرب أكتوبر، يُعد أمرًا بالغ الأهمية لفهم أعمق لتطورات الماضي وكيفية تأثيرها على المستقبل. بعد مرور عقود على تلك الأحداث، يجب أن يكون من حق المواطنين الاطلاع على هذه الوثائق التاريخية، كحق ديمقراطي ينبغي تفعيله تدريجيًا. إن هذا الانفتاح على الأرشيفات سيمنحنا الفرصة للاستفادة من هذه المعلومات بشكل موضوعي، ويسهم في إعادة بناء تاريخنا الوطني بشكل أكثر دقة وفهمًا، بما يساعدنا على رسم ملامح المستقبل بناءً على دروس الماضي.
د/ محمد سالم
أمين الهيئة البرلمانية للحزب
كل الحقوق محفوظة © 2021 - الحزب المصري الديمقراطي الإجتماعي
تطوير وإدارة الموقع: مؤسسة سوا فور لخدمات مواقع الويب وتطبيقات الموبايل.